شرح حديث تكليم الله لعبد الله بن عمرو بن حرام كفاحاً
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [حدثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي ويحيى بن حبيب بن عربي قالا: حدثنا موسى بن إبراهيم بن كثير الأنصاري الحزامي قال: سمعت طلحة بن خراش قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: لما قتل عبد الله بن عمرو بن حرام يوم أحد لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (يا جابر! ألا أخبرك ما قال الله لأبيك؟ -وقال يحيى في حديثه- فقال: يا جابر! ما لي أراك منكسراً؟ قال: قلت: يا رسول الله! استشهد أبي وترك عيالاً وديناً، قال: أفلا أبشرك بما لقي الله به أباك؟ قال: بلى يا رسول الله! قال: ما كلم الله أحداً قط إلا من وراء حجاب، وكلم أباك كفاحاً، فقال: يا عبدي! تمن علي أعطك، قال: يا رب! تحييني فأقتل فيك ثانية، فقال الرب سبحانه: إنه سبق مني أنهم إليها لا يرجعون، قال: يا رب! فأبلغ من ورائي، قال: فأنزل الله تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:١٦٩])].
هذا الحديث تكلم فيه أهل العلم -في طلحة وغيره- ولكن معنى الحديث صحيح، وله شواهد.
يقول الشارح فيه: إسناده حسن، وقد توهم البوصيري رحمه الله فعده من زوائد ابن ماجه، بل قال: هذا إسناده ضعيف.
طلحة بن خراش قال فيه الأزدي: روى عن جابر مناكير، وذكره الذهبي في الميزان، وموسى بن إبراهيم قال فيه ابن حبان في الثقات: يخطئ.
قلت: طلحة صدوق ولا يؤثر فيه قول الأزدي، فهو نفسه متكلم فيه.
فـ الأزدي نفسه ضعيف، فإذا طعن في أحد فطعنه فيه نظر، وأيضاً فإن الترمذي قال: حسن غريب ثم أشار إلى رواية عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر مختصراً، وحسنه العلامة الألباني رحمه الله.
والأقرب أنه حسن، وهو حديث عظيم فيه معاني عظيمة، وفيه أن عبد الله بن حرام والد جابر رضي الله عنه لما استشهد يوم أحد خلف بنات وديناً فلحق ابنه جابر هم عظيم، ثم قضى دينه النبي صلى الله عليه وسلم وتزوج امرأة ثيباً حتى تقوم على أخواته.
وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى جابراً منكسراً قال: (ألا أخبرك بما لقي الله به أباك؟ قال: بلى، قال: إن الله كلم أباك كفاحاً)، يعني: بدون واسطة، وهذه منقبة لـ عبد الله بن حرام رضي الله عنه، وهو مستثنى من قول الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الشورى:٥١]، فكلمه الله مباشرة بدون واسطة، كما كلم موسى عليه السلام من دون واسطة، وهذا منقبة خاصة بـ عبد الله بن حرام، فكلمه الله وقال له: تمن، قال: يا رب! أن أرد إلى دار الدنيا مرة أخرى حتى أقتل، وذلك لما رأى من فضل الشهادة، حيث صارت منزلته عند الله عالية، وثوابه عظيم، فتمنى أن يرد إلى الدار الدنيا مرة أخرى ويقتل، فقال الله: إني كتبت أنهم إليها لا يرجعون، فمن مات لا يرجع إلى الدنيا، إلا من كان آية من الآيات مثل قتيل بني إسرائيل، أحياه الله ثم أخبر من قتله، ثم عاد في الحال.
وفيه دليل على بطلان الحديث الذي فيه أن الله أحيا أبوي النبي صلى الله عليه وسلم له وأنهما آمنا به، وقد ذكره السيوطي رحمه الله، وهذا من خرافاته، ذكر أن الله أحيا أبوي النبي له، وأنهما آمنا به، وكذلك ذكره أبو بكر بن العربي كما مر في تفسير سورة البقرة، في قوله: {وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ} [البقرة:١١٨]، فذكر الحافظ ابن كثير رحمه الله أن هذا الحديث باطل، وأن الصواب أنه موضوع ولا أساس له من الصحة.
وهذا الحديث يدل على بطلانه قوله: (إنه سبق مني أنهم إليها لا يرجعون) أي: من مات لا يرجع إلى الدار الدنيا، ولا يفيد الإيمان بعد الموت، ولهذا قال الله تعالى لـ عبد الله بن حرام: (إنه سبق مني أنهم إليها لا يرجعون، قال: رب أبلغ من ورائي -يعني: في فضل الشهادة- فأنزل الله: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:١٦٩]).
واليهود والنصارى يعتقدون أن عيسى قتل وصلب، والصحيح أنه رفع حياً كما في نص القرآن: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء:١٥٨].
قوله: (ما كلم الله أحداً قط إلا من وراء حجاب) يعني: لم يره، أي: أنه كلمه ولكنه لم يره، فموسى عليه السلام كلمه الله من وراء حجاب ولم يره، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم كلمه الله ليلة المعراج من وراء حجاب ولم يره، هذا هو الصواب، فهم محجوبون عن الرؤية، ويدل على ذلك حديث مسلم (حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) فلما قيل للنبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي ذر: (هل رأيت ربك؟ قال: نور أنى أره) يعني: النور حجاب يمنعني من رؤيته، ولا يستطيع أحد أن يرى الله، هذا هو الصواب.
وقال بعض العلماء: إن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه ليلة المعراج، وأن ذلك خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، لكنه قول مرجوح.