[شرح حديث: (اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع)]
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب الانتفاع بالعلم والعمل به.
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو خالد الأحمر عن ابن عجلان عن سعيد بن أبي سعيد عن أبي هريرة قال: كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن دعاء لا يسمع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع)].
هذه ترجمة عظيمة، وهي: [باب العمل بالعلم والانتفاع به] لأن المقصود من تعلم العلم هو العمل والانتفاع به، فإذا لم يعمل الإنسان بالعلم ولم ينتفع به فإنه يكون من المغضوب عليهم، ويكون فيه شبه باليهود الذين معهم العلم ولم يعملوا به، أما إذا عمل بعلمه وانتفع به فإنه يكون مع المنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين الذين نسأل الله في كل ركعة من ركعات الصلاة أن يهدينا صراطهم، وهم الذين يعلمون ويعملون؛ تعلموا العلم وانتفعوا به وعملوا به، هؤلاء هم المنعم عليهم وهم أهل السعادة، أما أهل الشقاوة فهم طائفتان: الطائفة الأولى: المغضوب عليهم، وهم الذين يعلمون ولا يعملون، فلا ينتفعون بعلمهم، كاليهود وأشباههم، ولهذا قال بعض العلماء: من فسد من علمائنا ففيه شبه باليهود.
والطائفة الثانية: الضالون الذين يعملون بجهل وضلال، ليس عندهم علم، فقدوا العلم والبصيرة، فهم يتخبطون في دياجير الظلمات، كالصوفية وبعض الزهاد وغيرهم، ويدخل في هذا النصارى دخولاً أولياً، فهم الضالون، ولهذا شرع لنا الله سبحانه وتعالى قراءة الفاتحة في كل ركعة من ركعات الصلاة، وفي أولها حمد الله والثناء عليه سبحانه وتعالى وتمجيده: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:٢]، ثم ثناء على الله: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:٤] وتمجيد لله، وتوسل في الثناء عليه، وفيها أركان العبادة الثلاثة: المحبة، والخوف، والرجاء.
ثم بعدها: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:٥] (إياك نعبد) هذه هي سر الخليقة التي من أجلها خلق الله الخلق وهي العبادة والتوحيد والطاعة، ((إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ))، فالعبادة منك أيها العبد، والاستعانة بالله عز وجل، ثم بعد ذلك هذا الدعاء العظيم الذي هو أنفع وأعظم وأجمع دعاء، وحاجة الإنسان إلى هذا الدعاء أعظم من حاجته إلى الطعام والشراب، بل أعظم من حاجته إلى النفس الذي يتردد بين جنبيه؛ وذلك أن الإنسان إذا فقد الطعام والشراب مات الجسد، والموت لابد منه إن عاجلاً أو آجلاً، ولا يضر الإنسان أن يموت إذا كان مستقيماً على طاعة الله، وكان موحداً لله، فالموت لابد منه، لكن إذا فقد الهداية مات قلبه وروحه وصار إلى النار -نعوذ بالله- وبهذا يتبين أن حاجة العبد إلى هذا الدعاء أعظم من حاجته إلى الطعام والشراب، بل أعظم من حاجته إلى النفس الذي يتردد بين جنبيه، وهو: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:٦ - ٧].
فالله تعالى قسم الناس إلى ثلاثة أقسام: منعم عليهم، ومغضوب عليهم، وضالون.
فأنت تسأل الله أن يهديك الصراط المستقيم، صراط المنعم عليهم: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} * {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}، وقد بينه الله تعالى في سورة النساء بقوله: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} [النساء:٦٩] أربع طبقات: الأنبياء، والصديقون، والشهداء، والصالحون، فأنت تسأل الله أن يهديك الصراط المستقيم صراط المنعم عليهم، وتسأل الله أن يجنبك طريق المغضوب عليهم، ((غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ))، أي: غير صراط المغضوب عليهم، وهم الذين يعلمون ولا يعملون، (ولا الضالين) أي: وغير طريق الضالين، وهم الذين يعبدون الله على جهل وضلال.
فما أعظم هذا الدعاء وما أنفعه! فهما داءان إذا سلم الإنسان منهما فقد سلم من الشرور، وقد برأ الله نبيه الكريم عليه الصلاة والسلام من هذين الدائين؛ وهماً داء الغواية، وداء الضلال، فالذي لا يعمل بعلمه غاوٍ، والذي يعمل على جهل وضلال ضال، والذي يعمل بعلمه راشد.
قال تعالى في كتابه الكريم: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم:١ - ٢]، فأقسم الله أن نبينا صلى الله عليه وسلم ليس ضالاً ولا غاوياً، بل هو راشد عليه الصلاة والسلام.
فهذه الترجمة ترجمة عظيمة: باب العمل بالعلم والانتفاع به؛ لأن الثمرة من العلم هو العمل به والانتفاع به، فإذا لم يعمل الإنسان بعلمه ولم ينتفع به صار كاليهود، {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة:٥].
وهذا الحديث ضعيف؛ لانقطاعه، فـ سعيد بن أبي سعيد لم يسمع من أبي هريرة، وابن عجلان فيه كلام، وأبو خالد الأحمر ضعيف، لكن الحديث أصله في صحيح مسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، أعوذ بعزتك أن تضلني، لا إله إلا أنت الحي الذي لا يموت، والجن والإنس يموتون، اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها)، فهذا الدعاء ثابت معناه وإن كان الحديث سنده ضعيف، لكنه دعاء عظيم، إذ العلم الذي لا ينفع وبال على صاحبه، كاليهود معهم علم ولم يعملوا به، قال تعالى عنهم: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة:١٤٦]، أي: يعرفون أن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله وأنه حق، ومع ذلك لم يؤمنوا به، {وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة:١٤٦]، فلا فائدة من العلم الذي لا يعمل به صاحبه، وقال سبحانه عن اليهود: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة:٨٩].
قوله: (ومن نفس لا تشبع)، أي: لا تزال تسأل وتسأل وتسأل، ومن رزق القناعة فقد رزق خيراً كثيراً، فالقناعة كنز لا يفنى، والنفس التي لا تشبع لا يزال صاحبها نهماً، يطلب الدنيا ويسألها ولا يشبعه شيء ولا يرويه شيء، كالنهم الذي لا يروى.
قال: (ومن دعوة لا يستجاب لها)، فهذا دعاء عظيم.
والعلم الذي لا ينفع أي: لا ينفع الإنسان ولا يعمل به، وأهم شيء هي الواجبات، وأصل ذلك الإيمان بالله عز وجل، فاليهود يعلمون أن محمداً رسول الله ومع ذلك لم يؤمنوا، ولم يعملوا بعلمهم في أصل الدين، وهو الإيمان بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم، فهي شهادة لله تعالى بالوحدانية ولنبيه بالرسالة، فلم يشهدوا لمحمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة، وإن كانوا يزعمون أنهم مؤمنون بالله، لكن إيمانهم فاسد لا يصح حتى يؤمنوا برسول الله، فالشهادتان لا تقبل إحداهما بدون الأخرى، كل واحدة شرط في الأخرى، فمن شهد أن لا إله إلا الله ولم يشهد أن محمداً رسول الله لم تقبل منه، ومن شهد أن محمداً رسول الله ولم يشهد أن لا إله إلا الله لم تقبل منه، وإذا أطلقت إحداهما دخلت فيها الأخرى، فإذا أطلقت شهادة أن لا إله إلا الله دخلت فيها شهادة أن محمداً رسول الله، وإذا أطلقت شهادة أن محمداً رسول الله دخلت فيها شهادة أن لا إله إلا الله، ولهذا نفى الله تعالى الإيمان عن أهل الكتاب لما لم يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وإن كانوا يزعمون أنهم يؤمنون بالله، قال سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:٢٩]، فنفى عنهم الإيمان بالله واليوم الآخر؛ لأنهم أنكروا نبوة ورسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وإن كانوا يزعمون أنهم مؤمنون.
وكذلك أيضاً من لم يعمل بعلمه في أداء الواجبات وترك المحرمات، أما من أدى الواجبات والفرائض وترك المحرمات فقد آمن بالله ورسوله، ثم اقتصر على ذلك فهو من المقتصدين أصحاب اليمين الذين يدخلون الجنة من أول وهلة، ولكن أعلى منهم وأفضل هم السابقون المقربون، الذين يؤدون الفرائض والواجبات وينشطون في فعل النوافل والمستحبات، ويتركون المحرمات والمكروهات كراهة التنزيه، ويتركون التوسع في المباحات أيضاًَ خشية الوقوع في المكروهات، فهؤلاء هم السابقون المقربون، أما المقتصدون فهم الذين يقتصرون على أداء والواجبات فقط، وليس عندهم نشاط في فعل المستحبات والنوافل، ويتركون المحرمات ولا يفعلون شيئاً منها، ولكن ليس عندهم نشاط في ترك المكروهات كراهة تنزيه، وقد يتوسعون في المباحات، وكل من الطائفتين -السابقين المقربين والمقتصدين- يدخلون الجنة من أول وهلة.
وهناك طائفة ثالثة من المؤمنين وهم الظالمون لأنفسهم الذين يقصرون في بعض الواجبات، أو يفعلون بعض المحرمات، وهم مؤمنون بالله ورسوله موحدون، ولكن قصروا في بعض الواجبات أو ارتكبوا بعض المحرمات، فهؤلاء على خطر، وهم داخلون تحت المشيئة، كما قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:٤٨]، فمنهم من يعفى عنه ومنهم من يصيبه العذاب، فقد يعذب في قبره، كما في حديث ابن عباس في قصة الرجلين اللذين كان أحدهما لا يستنزه من البول، وكان الآخر يمشي بالنميمة، فعذبا في قبريهما.
وقد تصيبه شدائد وأهوال