[ما جاء فيمن سن سنة حسنة أو سيئة]
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب من سن سنة حسنة أو سيئة: حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب قال: حدثنا أبو عوانة قال: حدثنا عبد الملك بن عمير عن المنذر بن جرير عن أبيه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سن سنة حسنة فعمل بها كان له أجرها ومثل أجر من عمل بها لا ينقص من أجورهم شيئاً.
ومن سن سنة سيئة فعمل بها كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده لا ينقص من أوزارهم شيئاً)].
وهذا الحديث أصله في مسلم، وفي لفظ: (من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة)، وفيه فضل من سن سنة حسنة، والوعيد على من سن سنة سيئة.
وقوله: (من سن سنة حسنة) يعني: أظهر السنة ونشرها وعمل بها، وليس المراد أنه يحدث سنة من عند نفسه، بل المراد: أنه ينشر السنة ويحييها ويعمل بها، ويدعو إليها، وكذلك قوله: (من سن سنة سيئة)، أي: من ابتدع بدعة أو ترك سنة، (فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة)، فمن ترك السنة أو دعا إلى تركها أو عمل بدعة فإنه داخل في هذا.
والبدع ليس فيها شيئاً حسناً، بل البدع كلها سيئة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وكل بدعة ضلالة)، والمراد: (من سن سنة حسنة)، يعني: أظهرها ونشرها وعمل بها، وفي هذا الحديث: (من سن سنة فعمل بها)، فالفاء هذه بيانية.
وقد أخرجه مسلم والنسائي.
وإسناد صحيح، وعبد الملك بن عمير حسن الحديث، وقد تابعه عون بن أبي جحيفة.
وقوله: (من سن) بأن عمل بها، ومثله قوله تعالى: {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ} [هود:٤٥] الآية، وأمثاله كثيرة، والمراد: فعمل بها، وهو على بناء المفعول، وهو واضح.
وقوله: (من سن سنة حسنة) يعني: عمل بالسنة ونشرها ودعا إليها وأظهرها، والحديث له سبب، كما عند مسلم وهو أنه جاء أناس من العرب من البادية من مضر ثيابهم مقطعة مخرقة، فتمعر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل ثم خرج ثم أذن ثم أقيمت الصلاة، ثم خطب الناس عليه الصلاة والسلام، وقال: (تصدق رجل من بره من طعامه من درهمه - وحث الناس عل الصدقة - فجاء رجل من الأنصار وأتى بكف من طعام كادت يده أن تعجز عنه، بل قد عجزت، فوضعه، ثم جاء رجل آخر، وتتابع الناس، حتى اجتمع كومان: كوم من الطعام وكوم من الثياب، فتهلل وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه مذهبة، ثم قال عليه الصلاة والسلام: من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة) فهذا الرجل الأول سن هذه السنة، فإنه أول من جاء فمجرد ما سمع النبي صلى الله عليه وسلم جاء بكف من طعام كادت يده أن تعجز عنها، فسن للناس هذه السنة، وتتابع الناس فعملوا مثل عمله.
فقوله: (سن) يعني: عمل بالسنة وأظهرها وبادر إليها ونشرها، وليس المراد بقوله: (من سن سنة حسنة) أن الإنسان يحدث البدع في الدين، بل البدع كلها ضلالة.
وإذا سن الإنسان سنة سيئة ثم تاب فعليه أن يبين ما عمله سابقاً، يبين للناس في الأمكنة التي نشر فيها السيئة، وينهى عنها ويبين أنه خطأ.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث قال: حدثني أبي عن أيوب عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فحث عليه، فقال رجل: عندي كذا وكذا، قال: فما بقي في المجلس رجل إلا تصدق عليه بما قل أو كثر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من استن خيراً فاستن به كان له أجره كاملاً ومن أجور من استن به ولا ينقص من أجورهم شيئاً، ومن استن سنة سيئة فاستن به فعليه وزره كاملاً ومن أوزار الذي استن به، ولا ينقص من أوزارهم شيئاً).
قوله: (من استن خيراً فاستن به) يعني: اقتدي به.
وهذا الحديث واضح؛ لأن المراد بقوله: (استن) عمل بالسنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حث على الصدقة، فجاء هذا الرجل وعمل بها، وأول ما عمل بها اقتدى به الناس.
قوله: (من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة) أي: ومن عمل بالمعصية ودعا إليها وتتابع الناس فعليه وزرها ووزر من عمل بها.
وفي بعض النسخ قال: (حدثني عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث قال: حدثني أبي) وفي بعضها: (عن أيوب) من دون ذكر أبيه.
وعبد الوارث يروي عن أبيه عبد الصمد، وعبد الصمد يروي عن أبيه عبد الوارث وعبد الوارث يروي عن أيوب.
وهذا الحديث إسناده صحيح، ورواه مسلم والترمذي من حديث جرير.