قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب فيما أنكرت الجهمية.
حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير، حدثنا أبي ووكيع، ح وحدثنا علي بن محمد، حدثنا خالي يعلى، ووكيع، وأبو معاوية، قالوا: حدثنا إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم، عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: كنا جلوساً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر إلى القمر ليلة البدر قال: (إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر، لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا، ثم قرأ:{وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ}[ق:٣٩])].
هذا حديث عظيم في إثبات رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة، وهو حديث أخرجه البخاري ومسلم رحمه الله، وفيه: أن المؤمنين يرون ربهم بأبصارهم عياناً، كما يرون القمر ليلة البدر، يعني: يرونه رؤية واضحة لا لبس فيها، ولذا قال:(لا تضامون)، يعني: لا يحصل لكم ازدحام في رؤيته، كما أن الإنسان ينظر إلى القمر ولا يزدحم مع غيره ولا تحصل له مشقة في ذلك، وكذلك يرى المؤمنون ربهم، وليس المراد تشبيه الله بالقمر تعالى الله، فالله سبحانه لا يشبه أحداً من خلقه، ولكن المراد تشبيه الرؤية بالرؤية، لا المرئي بالمرئي، والمعنى: أنكم سترون ربكم رؤية واضحة كما ترون القمر رؤية واضحة.
وفيه دليل على أن المحافظة على هاتين الصلاتين من أسباب رؤية الله يوم القيامة، وهما صلاة الفجر وصلاة العصر، ولهذا قال:(فإن استطعم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا)، الصلاة التي قبل طلوع الشمس هي الفجر، والصلاة التي قبل غروبها هي العصر، ويجتمع في هاتين الصلاتين ملائكة الليل وملائكة النهار، ففي صلاة الصبح يصعد ملائكة الليل، وينزل ملائكة النهار، وفي صلاة العصر يصعد ملائكة النهار وينزل ملائكة الليل، ثم قرأ:{وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ}[ق:٣٩]، قبل طلوع الشمس: صلاة الفجر، وقبل غروبها: صلاة العصر.
وفيه الرد على الجهمية الذين أنكروا رؤية الله - وهذا هو الشاهد من الترجمة - وقالوا: إن المؤمنين لا يرون ربهم يوم القيامة، وكذلك المعتزلة، فالجهمية أنكروا الصفات كلها، والمعتزلة فسروا الرؤية بالعلم، فقالوا:(ترون ربكم) أي: تعلمون ربكم كما ترون القمر، وتعلمون أن لكم رباً كما تعلمون أن القمر قمراً، هكذا تأولوه والعياذ بالله، وهذا من أبطل الباطل.
كانت الرؤية من المسائل التي أنكرتها الجهمية، ولهذا أدخلها المؤلف رحمه الله في باب ما أنكرت الجهمية، وكذلك المعتزلة.
الأشاعرة أثبتوا الرؤية، لكن نفوا المكان والجهة، فقالوا: يرى لا في جهة محدودة، قيل لهم: من فوق؟ قالوا: لا، من تحت؟ لا، يمين؟ لا، شمال؟ لا، أمام؟ لا، خلف؟ لا، أين يرى؟! يقولون: يرى لا في جهة، هذا غير معقول وغير متصور، ولهذا قيل: إن حقيقة قولهم هو نفي الرؤية لأنهم ما أرادوا الرؤية، ولو أرادوا الرؤية لأثبتوا الجهة، ولا يمكن أن يكون المرئي إلا في جهة من الرائي، ولهذا أنكر جماهير العقلاء، وضحكوا من قول الأشاعرة، من أنه يرى بدون مواجهة للرائي، لا بد أن يكون الرائي مواجهاً للمرئي، مبايناً له، أما رؤية في غير جهة فغير معقولة ولا متصورة.
ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم بين أن المؤمنين يرون القمر من فوقهم كما في الأحاديث الصحيحة، ومعلوم أن القمر من فوقنا، فنرى الله من فوقنا.