قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة قال: حدثنا وكيع ح وحدثنا علي بن محمد قال: حدثنا أبو معاوية ووكيع عن الأعمش عن سعد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن علي رضي الله عنه قال:(كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم وبيده عود، فنكت في الأرض ثم رفع رأسه فقال: ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار، قيل: يا رسول الله! أفلا نتكل؟ قال: لا، اعملوا ولا تتكلوا، فكل ميسر لما خلق له، ثم قرأ {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى}[الليل:٥ - ١٠])].
هذا الحديث أخرجه الشيخان، وهو حديث ثابت ومعروف، وفيه أن الله تعالى كتب الشقاوة والسعادة على البشر، بدليل قوله:(ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار)، وقد أشكل هذا على الصحابة، وقالوا:(يا رسول الله! ففيم العمل؟ قال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له، أما أهل السعادة فسييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فسييسرون لعمل أهل الشقاوة، ثم قرأ الآية:{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى}[الليل:٥ - ١٠]).
والكيس اللبيب لا يزيده الإيمان بالقدر إلا نشاطاً وقوة في العمل، فلا يحجم عن العمل وإنما يزداد من أعمال الخير ما ييسر له ذلك، والقدر من شئون الله وليس من شئون العبد، فالعبد مأمور بالعمل فحسب، والقدر من اختصاص الله ومن شئون الله، وهو مغيب عنك، وعليك أن تعمل بطاعة الله، وتجتنب معاصي الله.
ولا يجوز أن يتكل الإنسان ويكسل عن العمل، وإذا وقع في المعصية فليحرص أن يدفع هذه المعصية، وإن كانت بقدر يدفعها بقدر آخر، فيدفع قدر المعصية بقدر الطاعة، ويدفع قدر السيئة بقدر الحسنة، فهذا مقدر وهذا مقدر.
ولهذا لما جاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالصحابة إلى الشام، وقد فشا فيها الطاعون -طاعون عمواس- استشار الناس هل يدخل بهم إلى البلد وفيها الطاعون أم لا يدخل؟ فاستشار الأنصار، فأشار بعضهم بأن يدخل، وبعضهم أشار بأن يرجع، واستشار المهاجرين، واستشار من أسلم في الفتح، فقال بعضهم: إن هذا الوباء قد وقع في البلاد، ومعك خيار الناس وأصحاب رسول الله، فلا نرى أن تقدمهم عليه، وبعضهم قال: نرى أن تقدم وأن تدخل، وما قدره الله كان.
ثم عزم عمر رضي الله عنه على أن يرجع، فقال له أبو عبيدة: أفراراً من قدر الله يا عمر؟! قال: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة! نفر من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت لو كان عندك عدوتان: عدوة فيها عشب، وعدوة ليس فيها عشب، في أيها ترعى جملك؟ قال: في العدوة التي فيها عشب، قال: أليس إذا رعيت العدوة المعشبة بقدر الله، وإذا رعيت الأرض الأخرى بقدر الله؟ قال: بلى، قال: فكذلك هذا، ثم جاء عبد الرحمن بن عوف وكان متغيباً في حاجة وهم يتحاورون فقال: إن عندي من هذا علماً، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:(إذا وقع الطاعون في بلد وأنتم فيها فلا تخرجوا منها، وإذا كنتم في أرض ليس فيها فلا تقدموا عليها)، فحمد الله عمر رضي الله عنه أن وافق اجتهاده النص، ورجع بالناس.
فإذا وقع الطاعون في بلد فلا يشرع للإنسان أن يدخل فيها، وإذا وقع في أرض فلا يقدم عليها، كما لا ينبغي أن يخرج منها فراراً منه؛ بل يبقى فيها، ويعتمد على الله ويتوكل عليه.