شرح حديث: (إذا قضى الله أمراً في السماء ضربت الملائكة أجنحتها)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [حدثنا يعقوب بن حميد بن كاسب حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قضى الله أمراً في السماء ضربت الملائكة أجنحتها خضعاناً لقوله كأنه سلسلة على صفوان، ((إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ))، قال فيسمعها مسترقو السمع بعضهم فوق بعض، فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته، فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها إلى الذي تحته، فيلقيها على لسان الكاهن أو الساحر، فربما لم يدرك حتى يلقيها، فيكذب معها مائة كذبة فتصدق تلك الكلمة التي سمعت من السماء)].
وفي اللفظ الآخر: (ويصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء)، وأخرجه البخاري.
وهذا حديث عظيم فيه إثبات صفات الله عز وجل، وإثبات الكلام لله عز وجل، وفيه أن الملائكة يصرعون من كلام الله ويصعقون، وهذا ذكره الإمام محمد بن عبد الوهاب في كتاب التوحيد، في باب قول الله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ:٢٣].
قوله: (إذا قضى الله الأمر في السماء، ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله) أي: لقول الله عز وجل، وفيه إثبات قول الله والرد على من أنكر القول والكلام، ففيه أن الله يقول ويتكلم كلاماً يليق بجلاله وعظمته، خلافاً للجهمية والمعتزلة الذين أنكروا الكلام، وكذلك الأشاعرة الذين أثبتوا الكلام على أنه معنى قائم في نفسه، قالوا: ومعنى قائم في نفس الرب أنه ليس بحرف ولا صوت.
وفيه: أن الملائكة يصيبهم الصعق والغشيان، (حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ) يعني: زال الفزع، وفيه أن الشياطين يسترقون السمع ويسمعون الكلمة التي يتحدث بها عن السماء الدنيا أو يتحدث بها الملائكة في العلن في السحاب، ثم يلقيها الشيطان إلى من تحته، ويلقيها الآخر إلى من تحته حتى تصل إلى الكاهن، والشياطين بعضهم فوق بعض هكذا وحرك الراوي أصابعه ومدها، واحداً فوق واحد فوق واحد إلى السماء، مثل المتلاصقين، فالشياطين كثيرون في طبقات الجو، يركب بعضهم بعضاً وبينهم فجوات، فيسمع الشيطان الأعلى الملائكة تتكلم في العنان، فيلقيها إلى من تحته، والآخر إلى من تحته حتى تصل إلى الشيطان الأسفل فيلقيها في أذن الكاهن، ويقرها كقر الدجاجة، فإذا وصلت إلى الكاهن كذب معها مائة كذبة، وتحدث الناس بهذا الكذب، فإذا وقعت الواحدة من السماء صدق الكاهن بجميع الكذب من أجل واحدة، وهذا يدل على انتشار الشر والباطل.
والشهب تلاحق الشياطين وتحرقهم، فأحياناً تحرقهم حتى يصل الإحراق إلى الشيطان الأكبر، وأحياناً الشيطان الأسفل يلقيها في أذن الكاهن قبل أن يدركه الشهاب، ومرة يدركه الشهاب قبل أن يلقيها، وهذا يدل على أن الشياطين كثيرون في الأرض والسماء؛ لأن هذه الشهب تحرقهم ومع ذلك هناك من يسترق السمع، فهم كثيرون لا ينتهون.
وفيه إثبات الكلام لله عز وجل، وإثبات القول، وإثبات العظمة لله، وأن الملائكة مع عظمة خلقهم يسمعون ويغشى عليهم من كلام الله عز وجل، وفيه إثبات الصوت حيث قال: (كأنه سلسلة على صفوان) أي: كأن الصوت الذي سمعه من كلام الله سلسلة من الحديد ضربت على صفوان، وهو الحجر الأملس، حيث يكون لها صوت، وهذا من باب تحقيق وتقريب الصفة، والمراد به التشبيه، وفيه إثبات كلام الله عز وجل، وأن كلام الله يكون بحرف وصوت يسمع، كما دلت الأحاديث الصحيحة، ومنها حديث في الصحيحين، أن الله يوم القيامة يقول: (يا آدم! فيقول: لبيك وسعديك، فيقول: أخرج بعث النار)، وفي الحديث الآخر: (إن الله ينادي بصوت يوم القيامة، يسمعه من بعد كما يسمه من قرب)، وفيه الرد على من أنكر الصوت من الأشاعرة والجهمية والكلابية وغيرهم، فكلهم أنكروا الكلام، وأنكروا الحرف والصوت، والأشاعرة والكلابية أثبتوا الكلام لكن بغير حرف ولا صوت، وقالوا: هو معنى كائن في النفس، وهذا من أبطل الباطل، فجعلوا الرب كالأخرس لا يتكلم، وقالوا: الكلام معنى قائم في نفسه، والذي تكلم هو جبريل، حيث فهم المعنى القائم بالنفس اضطره الله لذلك فعبر يعني: هذا القرآن، وأحياناً يقولون: عبر به محمد، فهذا القرآن كلام محمد، أو كلام جبريل، والمعنى من الله والحروف من جبريل أو من محمد، وهذا من أبطل الباطل، وهو مذهب الأشاعرة الذين هم أقرب الطوائف إلى أهل السنة، نسأل الله السلامة والعافية.
والمؤلف قصد الرد عليهم بهذه الأحاديث التي فيها هذه الصفات.
أما بالنسبة لكلام الله لـ عبد الله بن حرام فهو لم يكن من وراء حجاب، يعني: كلمه بدون واسطة، وهذا معنى كفاحاً، كما كلم موسى من دون واسطة، وكلم الله نبينا صلى الله عليه وسلم، ليلة المعراج بدون واسطة جبريل، أما الرؤيا فلا، قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (إنكم لن ترو ربكم حتى تموتوا)، هذا في رؤيا يوم القيامة.