لما تغلغل تقليد المذهب في سويداء قلوبهم، وغرز التقليد الجامد براثنه في جسم الأمة، وفرّطوا في القيام بالاجتهاد في المسائل النازلة بهم، واعتمدوا على الاحتكام إلى مذهب واحد فقط من المذاهب المتعددة, بل ولم يرجعوا إلى كلام الأئمة المشهود لهم بالعلم من غير مذهبهم.
ولكن رجعوا إلى أفراد تأخر بهم زمنهم, وتأخروا عن معاصرة أهل العلم السابقين, وحتى أبناء أزمانهم, فكتبوا فتاوى ما أنزل الله بها من سلطان, فكانت لهم المرجع والمرتكز! وكان قولهم هو المعتمد، مهما كان دليله قوة وضعفاً, وكيف كان قبوله في واقع الحياة.
وذلك لأنهم نادوا بسد باب الاجتهاد في منتصف القرن الرابع بدون دليل, وبدون حق, والذين نادوا بذلك ليسوا باعترافهم من أهل الاجتهاد .. وقد لخص ذلك أخي الدكتور عبد الكريم زيدان في كتابه "المدخل لدراسة الشريعة الإسلامية" كما يلي:
(ضعف السلطان السياسي للخلفاء العباسيين مما أثر في حياة الفقه والفقهاء. فلم يجدوا التشجيع الذي كان يحفزهم على الإنتاج الفقهي.
(تدوين المذاهب وترتيب مسائلها وتبويبها مما جعل الفقهاء يركنون إلى هذه الثروة الفقهية، ويستغنون بها عن البحث والاستنباط.
(ضعف الثقة بالنفس والتهيّب من الاجتهاد مما جعل الفقهاء يؤثرون التقليد على الخوض في ميدان الاجتهاد المطلق.
(إدعاء الاجتهاد ممن ليسوا أهلاً له، فأفتوا بسد باب الاجتهاد دفعاً لهذا الفساد وحفظاً لدين الله (١).
(شيوع التحاسد بين العلماء مما جعل الكثير منهم يحجم عن الاجتهاد خوفاً من أن يكيد له أعداؤه، ويرموه بالابتداع، فوقفوا عند أقوال المتقدمين.
(تعيين القضاة والمفتين على المذاهب مما كسر همم الفقهاء في الخوض في المسائل.
(عدم اعتداد العامة باجتهادات العلماء المعاصرين، وثقتهم بالعلماء المتقدمين.
(١) وتبعته الأخت الدكتورة نادية شريف العمري في كتابها "الاجتهاد في الإسلام" (ص ٢١٨ - ٢١٩).