للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[حديث الثلاثة الذين آواهم المبيت إلى الغار]

روى البخاري أيضاً ومسلم في الصحيحين حديث الثلاثة الذين انطبق عليهم الغار وقالوا: -طبعاً كانوا في سفر- وآواهم المبيت في الليل إلى هذا الغار فدخلوا فيه وناموا، وبينما هم نائمون تدحرجت صخرة ضخمة من الجبل ووقفت على باب الغار وسدته، وليس هناك وسيلة اتصال لا هاتف يتصلون بالنجدة أو الشرطة أو الدفاع المدني، ولا جماعة ينادون لهم، ولا جرافة ولا شيء يبعد الحجر عنهم، يدحرها برجله لا يستطيع مثل الجبل على الباب قالوا: (إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا الله) عرفوا أنه لا ملجأ ولا منجى من الله إلا إلى الله، فادعوا الله بصالح أعمالكم، من تعرف على الله في الرخاء تعرف الله عليه في الشدة، لو أنهم فسقة وعصاة ومغنون ومطربون ولعابون بماذا يدعون الله؟! لا ينفع في الساعات الضيقة والحرجة إلا الإيمان؛ لأن الإيمان جوهر، الإيمان ذهب، والعمل الصالح ذهب والذهب ينفعك في كل ميدان، بينما المعاصي -والعياذ بالله- بعر وفحم، والبعر والفحم لا ينفع، قد ينفع البعر في الدنيا لكن هل تشتري به شيئاً؟! لا.

لو أن إنساناً منكم سافر إلى بلدٍ بعيد من أجل الاغتراب سواءً جاء من خارج المملكة إلى المملكة أو من داخل المملكة إلى بعض جهات المملكة، واغترب سنوات طوال وهو يجمع المال إلى أن جمع له مبلغاً من المال وعاد إلى أهله في قريته، أحد الرجلين: إما رجل يذهب بمبلغ من المال ضخم يشتري سيارة كبيرة (مرسديس) ويحملها أثاثاً من كل ما لذ وطاب، ويحملها هدايا للجماعة وأهل القرية كلهم، وجيبه ممتلئ نقوداً، ومن يوم وصل إلى القرية ذبح الذبائح وأقام الولائم وعزم الأهالي كلهم.

ثم قال: والله لا يذهب منكم رجل إلا وقد أخذ كسوته، أنا كنت متغرباً عنكم والآن كل واحد له عندي ثوب وغترة وبشت وعقال، والمرأة لها عندي عباية وثوب، وأعطاهم كلهم وفوق نصيب كل واحد يعطيه نقوداً، ماذا يقول الناس لهذا الرجل؟ يقولون: الله أكبر! الله يوفق هذا الرجل، فيقول: وأنا أريد أتزوج هذه المرأة ما رأيكم يا جماعة؟! الكل سيقول: ليته يخطب عندي، بل سيتسابقون كلهم ليزوجوه، يقولون هذا رجل هذا فحل هذا الذي يقرب منه يجد خيراً في الدنيا والآخرة، هؤلاء كلهم يريدونه، إن أتيت تخطب قدموك، وإن أتيت تدخل في مجلس استقبلوك، وإن أتيت تسافر بكوا عليك، وإن أتيت تضيفهم أضافوك، لماذا؟ لأنك عرفت قيمة نفسك وحفظت نفسك في الدنيا، فهؤلاء أكرموك؛ لأنك رجل في الدنيا.

وآخر تغرب عشر سنوات وكان على القهاوي والأغاني، وبعدها تذكر أهله بعد عشرات السنين، لابد أن يرجع إليهم، وجاء ويفتش والله ليس معه شيء، لكن أخذ العدة، ما هي العدة؟ معه مسجل، وكرتون أشرطة، وكرتون دخان، وحقيبة أخرى لحلق لحيته، هذا زود الغربة وحملها إنه رجع إلى أهله، ويوم دخل عليهم: مرحباً، حياكم الله، الله يبارك فيك، فرحت به أمه وفرح أبوه، ورأوا الحقائب مليئة يظنون أن فيها شيئاً، فتحها وإذا به أندر شريط وقال: ارقصوا أريدكم تغنوا.

قالوا: والنعمة! ما سافرت حتى تعود لنرقص، الرقص في كل مكان، ما نفعنا الرقص، لكن معك شيء آخر؟ قال: أعطيت لكم الدخان، الدخان هذا يجعل الواحد يرى الدنيا كلها وهو جالس.

وماذا معك؟ قال: وهذه العدة حق الحلاقة، هذا صابون اسمه كذا، وهذا حلاقة أبو تمساح.

انتظر الجماعة يومين وثلاثة الوليمة! وليس هناك وليمة ولا شيء! ما رأيكم هل أحد يزوجه إذا أراد أن يتعرس؟ والله ما يزوجونه بحمارة! لو يطلب حمارة يقولون: الحمارة أفضل من هذا! الحمارة تنفعنا نضع على ظهرها الحمل وتمشي، لكن هذا الضايع ماذا نعطي له؟ ولا يضيفونه ولا يكرمونه ويصبح مسبة لأهله، إذا جاء أبوه يتكلم قالوا: اسكت يا أبا فلان، والله ولدك كله خيبة مثلك، لو فيه خير كان حفظ نفسه، هذا في مقام الدنيا، نحن الآن مسافرون مغتربون، كلنا يا من على ظهر الدنيا مغتربون.

ومن الناس من يعمل عمل ذلك الرجل، شغال في الحسنات، يتزود من العمل الصالح لا يترك لله أمراً إلا عمله، ولا ينهى عن أمر إلا انتهى عنه، ولا يُذكر لله خبرٌ إلا صدقه، ولا يترك مجالاً من مجال الخير إلا سار فيه، فهو يحول، فإذا مات رجع إلى الله عز وجل بوجهٍ أبيض وكتابٍ أبيض وعمل أبيض، فالله عز وجل يزوجه من الحور العين، ويسكنه في القصور العالية، ويجري من تحته الأنهار الجارية، ويعطيه من كل ما لذ وطاب؛ لأنه قال: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة:٢٤] وأما ذاك الذي أتى ومعه أغاني ودخان يأتي عند الله ماذا معه؟ {يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} [النبأ:٤٠] ليس معه شيء، هل يتزوج من الحور العين هذا؟ لا.

ادخلوه الصالة والعياذ بالله.

فأنت يا عبد الله! لا ينبغي لك أن تضيع نفسك.

هؤلاء الرجال الثلاثة قالوا: إنه لا ينجيكم مما أنتم فيه إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم، فدعوا، أحدهم ماذا قال؟ قال: (اللهم إنه كانت لي ابنة عم وكانت أحب الناس إليَّ، فراودتها عن نفسها فامتنعت، حتى ألمت بها سَنَة من السنين -أي: نزل بها حاجة وفقر لشدة القحط والمئونة- فجاءتني فأعطيتها مائتين وعشرين ديناراً على أن تخلي بيني وبين نفسها ففعلت حتى إذا قدرت عليها قالت: اتقِ الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه - تقول: لا تعمل غلط! هذا المكان لا يجيء إلا بالحق والحق هو الزواج الشرعي- قال: فتركتها وانصرفتُ عنها وهي أحب الناس إليَّ، اللهم إن كنت عملت هذا من أجلك وخوفاً منك ففرج عنا ما نحن فيه) وكان هذا الثالث، الأول قال: إنه كان له أب وأم وكان يرعى ونأى به المرعى يوماً من الأيام بعيداً؛ لأنه يتتبع منابت الشجر والأمطار، وما رجع إلا في ساعة متأخرة وقد نام والداه فحلب من الإبل وجاء بالغبوق -العشاء- لأولاده ولأمه وأبيه، لكن يقول: وكنت لا أغبق قبلهما أحداً، فأولاده يتضاغون عند رجله يبكون، وزوجته تبكي من الجوع، وأمه وأبوه نائمان، قال: والله ما أوقظهم فأزعجهم ولا أعطيكم قبلهم، يقول: فجلست واقفاً على قدمي إلى أن طلع الفجر وهو لم يكن طوال يومه نائماً، كان طوال يومه شارداً وراء الإبل يرعى، وفي الليل لم ينم يقول: أخشى أن أنام فيأكلون هذا قبل أمي وأبي، وأخشى أن أوقظهم فيغضب الله عليَّ أن أيقظ أبي وأمي من النوم وأزعجهم، لا يريد أن يقول لهم حتى أف، يقول: اللهم إن كنت تعلم أني صنعت ذلك من أجلك ففرج عنا ما نحن فيه، ففرج عنهم قليلاً لكن لا يستطيعون أن يخرجوا.

الثاني ماذا عندك؟ قال: كان عندي أجراء عملوا عندي عملاً فأعطيت كل واحد منهم أجره إلا واحداً ذهب وترك أجرته، يقول: فاستثمرته ونميته حتى أصبح وادياً من الإبل، ووادياً من البقر، ووادياً من الغنم، وعبيد يخدمون، وبعد سنين جاءني هذا العامل وقال: يا سيدي! إني كنت قد عملت عندك يوماً من الأيام وبقي عندك كذا وكذا أريده.

قال: أنت فلان؟ قال: نعم.

قال: ما ترى من الوديان من الغنم والإبل والبقر والعبيد كلها لك.

قال: أتهزأ بي؟! قال: والله ما أهزأ بك ولكن كله لك، فأخذه وساقه وما ترك له شيئاً من أجل الله عز وجل، ليس مثل كثير من الناس الذين يأكلون أجور المسلمين، ويبنون البنايات من ظهور المسلمين، بعض الناس يأتي يبني عمارة وهو مفلس وما عنده شيء، ويأتي بالمقاول ويأمره أن يشتغل، وبعدها يماطل به ويذهب يشاكيه ويقعد يتوسط عليه ويذهب للحقوق فيقول: هذا أجنبي ما له شيء، وأنا ابن الوطن ويشتغل بالهاتف وبالمكالمات حتى يظلم هذا المسكين، و (المشطب) يأمره (يشطب) ولا يعطيه، السباك يسبك ولا يعطيه، المرنج لا يعطيه، يعني: كل شغلته من ظهور الناس، مساكين هؤلاء -يا أخي- ما تركوا بلادهم واغتربوا وضحوا بأموالهم وأولادهم وأهاليهم إلا من أجل طلب لقمة العيش، من أجل أن يأخذ منك مقابل عرق جبينه، ويأكله ويرسل لأهله، فأنت لماذا تأكل عرق جبين المسلم؟ بم تستحل هذا؟ (إن أموالكم ودماءكم وأعراضكم حرامٌ عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا) (أعطوا الأجير أجرته قبل أن يجف عرقه) لا يجوز لك شرعاً بأي حال من الأحوال أن تؤخر ريالاً واحداً على عامل عندك.

كثير من الناس عنده عمال، وبعض العاملين له أربعة وخمسة أشهر وما أخذوا الراتب إلى الآن، يمارس الضغوط عليهم وإذا قالوا: هات وإلا سنشتكيك.

قال: سوف أسفركم يعني: يضع عليهم شيئاً في الترحيل حتى يستغل ضعفهم وقلتهم، ولكن هؤلاء سينصرهم الله عليه في الدنيا والآخرة، والله إن دعوة المظلوم ليرفعها الله وإنها لتشق الغمام وإن الله ليقول: لأنصرنك ولو بعد حين، دعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب، هذا المؤمن الموفق ما كان من هذا الصنف وإنما من الصنف الذي يخاف الله، ما أخذ النقود وقال: لما يأتي، شغلها وثمرها وأعطاها كلها ففرج الله عنهم، لكنهم لا يستطيعون.

فقال الثالث الموفق هذا الذي حفظ فرجه من الحرام؛ ففرج الله عنهم، وأزال الصخرة، وخرجوا يسعون في سبيل الله عز وجل بسبب ماذا؟ بسبب العمل الصالح.

<<  <  ج: ص:  >  >>