[النميمة وضررها على الفرد والمجتمع]
النميمة التي هي سبب من أسباب عذاب القبر هي من أعظم الذنوب، وقد ذكرنا في ليلة من الليالي الماضية الحديث، وهو في صحيح البخاري قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة نمام) قد يسأل أحدهم: كيف لا يدخل الجنة نمام؟ فقلنا: إن هذه الأحاديث -أحاديث الترهيب والوعيد- لا تؤخذ بمفردها، وإنما تؤخذ بمجموعها، ومع إجمال ما ورد فيها، وهذا الحديث إذا كان صاحبه النمام موحداً فإنه لا يدخل الجنة ابتداءً وإنما نهايته في النهاية إلى الجنة بعد أن يمكث في النار ما شاء الله عز وجل أن يمكث.
أما أن يدخل مباشرة إلى الجنة؟ فلا.
لأنه لا يدخل الجنة نمام؛ لأن النميمة من أعظم الكبائر ومن الموبقات -والعياذ بالله- ومن الذنوب التي يتعدى ضررها إلى الغير، يقول عليه الصلاة والسلام: (دب إليكم داء الأمم قبلكم ألا إنها الحالقة -تحلق الدين وتجعله أصلع- لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين) و (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القيل والقال، وعن إضاعة المال وعن كثرة السؤال) القيل والقال مأخوذة من القلقلة يعني: تسمع قولاً فتذهب تنقله، وأنت بهذه الطريقة تفتن بين المسلمين وتزرع المشاكل وتسبب الإحن وتنزع الثقة من الناس، وتجعل المسلم يكره المسلم، وإذا وجدت الكراهية والبغضاء والشحناء والاضطرابات النفسية في النفوس فإن الدين يرحل، ولا يحل الدين إلا في أرض الحب والمودة، ولهذا الله عز وجل جعل الود بين الصحابة والولاء أرضية لقيام الدين الإسلامي في المدينة، وأول عمل فعله صلى الله عليه وسلم أنه آخى بين المهاجرين والأنصار، قال الله عز وجل: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} [الأنفال:٦٣] فتأليف القلوب هدف من أهداف الدين، وتشتيتها هدف من أهداف الشيطان والشرك، فلا ينبغي أن يزرع في المجتمع المسلم إلا الود، والنميمة ضده؛ لأن الإنسان ليس معصوماً، قد يقول الإنسان كلمة وهو لا يلقي لها بالاً في مجلس من المجالس يخطئ، تزل به القدم أو يعثر به اللسان؛ لأنه بشر فيذكر أحد الناس -مثلاً- في المجلس، فهو يقول: من هو فلان؟ فلان ليس فيه خير، فأحد الجلوس لقطها وذهب إليه، قال: ما الذي بينك وبين فلان؟ قال: بالأمس كنا جلوساً ولم يذكرك أحد إلا فلان قال: ليس فيك خير وأنك لعاب وإنسان شيئ.
قال: هل هذا صحيح؟ قال: نعم.
ألا تعرفه؟ هو خبيث ولكنه يتظاهر لكم أحياناً والله لو تعلم ماذا فيه، قال: ماذا فيه؟ قال: فيه وفيه وفيه.
قال: الله أكبر عليه، والله كنت أظن أن فيه خيراً.
وخرج مباشرة إلى الآخر، وقال: السلام عليكم، كيف الحال إن شاء طيب أنت بخير، ماذا بينك أنت وفلان؟ والله أنا أعلم أنكم أصدقاء.
قال: ماذا هناك؟ قال: كنت عنده بالأمس وقد تكلم عليك وقال فيك: كذا وكذا.
ما ظنكم بعد أن يتقابلا، ماذا يحدث بينهما؟ أول ما ينظر إليه من أول الطريق يهرب منه، وإذا سمع عنه أي خير يقلب الحقائق عنه، وإذا سمع عنه أي شر يثير البغضاء والفاحشة عنه، وبعد ذلك يكرهه ويكره أولاده وجيرانه وأقاربه وتشيع وتصدر المفاسد العظيمة بأسباب نقل الكلام، ليس لك مصلحة من نقل الكلام.
ولذا يذكر أهل العلم قصة وهي أن رجلاً كان له عبد مملوك، وكان هذا العبد من صفاته -والعياذ بالله- أنه نمام؛ والنميمة مرض، بعضهم إذا ما نم لا يأتيه النوم، عنده النميمة أكلة ووجبة، يضل جائعاً حتى يقول نميمة، فهذا مريض بهذا المرض فعلم سيده وعرف طريقته وأراد أن يتخلص منه فذهب إلى السوق وباعه في سوق النخاسين -مكان بيع العبيد- ونادى عليه قال: هذا العبد خدوم فيه كل خصلة إلا خصلة ليست طيبة، قالوا: ما هي؟ قال: نمام، قال الذي يريد أن يشتريه: لا نصدقه، فاشتراه ولم يصدقه أول الأمر، ومشت الأيام والليالي وجلس العبد المنحوس هذا ينصب له كذبة ونميمة لا أعظم منها، وجاء يومٌ من الأيام إلى سيدته، وكانت امرأة دينة طيبة وكانت على علاقة طيبة بزوجها بينها وبينه عشرة ومودة ورحمة وألفة وحياة كريمة، فصعب عليه هذا الجو الآمن وهذا العش الهادئ، فأراد أن يحطمه وأن يقضي عليه بهذا الأسلوب الشيطاني الذي عمله، فجاء إلى عمته وقال لها: يا عمة! قالت: نعم.
ماذا تريد؟ قال: سيدي يريد أن يتزوج، الحقيقة أنه مخطئ وأنت طيبة، ومخلصة، وأنا سمعت أنه يبحث عن زوجة، قالت: هل هذا صحيح؟ قال: نعم.
أنا معه دائماً أشاهده يتكلم مع الناس ويسأل ويرسل، وأظنه عازم على الزواج، وتعرفون أن بعض النساء لا تحب أن يتزوج عليها زوجها، هي تريد زوجها لها، فإذا جاءها مشارك فيه تقوم قائمتها، ولذا صعب عليها الأمر فأراد أن يحل إشكالها، قال: يا عمة! قالت: نعم.
قال: تريدين أن أحل المشكلة وأجعله لا يعرف النساء أبداً ولا يتزوج عليك مدى الحياة، قالت: بارك الله فيك، قال: أنا عندي فكرة، فقط أريد شيئاً مهماً جداً تحرصين عليه وتأتين به، قالت: ماذا تريد؟ قال: فقط أريد شعرات من لحيته، قالت: كيف آخذها؟ قال: إذا نام في الليل فخذي سكيناً وخذي منه شعرات واقطعيها وأتي بها إلي.
وقام من نفس اللحظة وتلك في البيت مسكينة وذهب لدكان عمه وهو تاجر وقال: يا عم يا عم! قال: ماذا بك؟ قال: أتيتك بخبر؛ قال: عمتي تحب شخصاً وقد عزمت هذه الليلة هي وإياه على قتلك! قال: عمتك تحب رجلاً وتريد أن تقتلني؟ قال: نعم.
قال: ما عهدت عليها هذا الأمر، قال: أنا نذير لك، وأنا أقول لك: إن كان الخبر صحيحاً تعرف أني مخلص لك، وإن كان الخبر ليس صحيحاً فاقتلني، قال: كيف أعلم أنه صحيح؟ قال: تذهب هذه الليلة وتستلقي على فراشك وتتناوم لكن لا تنام، انتبه حذاري أن تنام.
أنا براء منك وأنت ستراها تأتي إليك وفي يدها سكين حادة تريد أن تقطع رقبتك ثم تذهب هي مع هذا الرجل.
ذهب هذا الرجل إلى البيت ولم يتغد، وهي أيضاً ما استقبلته استقبالاً حسناً؛ لأن في قلبها شيء، قد أخبرها ذاك أنه سيتزوج عليها، فلما دخل جاء الشيطان إليه وقال: إن العبد كان صادقاً، انظر إليها ليست بطبيعتها الأولى حيث كانت تستقبلك وتقول: كيف حالك؟ كيف السوق؟ انظر إليها اليوم معبسة ماذا بها؟ ولما ذهب الرجل إلى فراشه استلقى على ظهره وجعل يفتح عيونه من بعيد، وجاءت المسكينة تريد أن تأخذ شعرات من تحت لحيته من أجل أن يبقى لها، ومن أجل أن تعيش معه حياةً كريمة فأخذت السكينة ولما أهوت بيدها إلى حلقه تمسك الشعرات وصبر ولما اقتربت السكينة من رقبته قام الرجل وأخذ السكين من يدها ووضعها على الأرض وذبحها، وكان الخبيث عند الباب يراقب، ويوم سمع الصياح خرج وذهب إلى أهل المرأة وصاح عليهم قال: فلان ذبح ابنتكم، فجاءوا كلهم بسلاحهم ودخلوا على الرجل وإذا ابنتهم مذبوحة، فخرج من بينهم وذهب لقرية الرجل قال: آل فلان هجموا على ولدكم وذبحوه وذبحوا امرأته، المهم اقتتلت القبيلتان حتى فنيت بسبب هذا العبد المنحوس.
جاء في بعض الآثار: أن النمام يفسد في ساعة ما لا يفسده الساحر في سنة، النمام يفسد في لحظة وفي دقيقة وفي ربع ساعة ما لا يفسده الساحر في سنة، النمام يزعزع كيان الأمم والشعوب والمجتمعات والأسر يجعل الأخوين عدوين، والصديقين متباعدين، والزوج عدو لزوجته، والولد عدو لأبيه، حتى بين الولد وأبيه, فبعض الناس يجلس مع أحد الأبناء فيقول له: هل يعاملك هكذا دائماً؟ والله لو كان أبي هذا ما نظرت لوجهه، لماذا لا يأخذك باللطف؟ والإحسان؟ ولماذا لا يترضى لك ويعاملك معاملة حسنة؟ فإذا ذهب الولد إلى أبيه لا يرد عليه، يقول الأب: ماذا بك لا ترد ولا تتكلم؟ قال: أنت تعاملني هكذا، أشاهد الناس يعطون لأولادهم ويعاملونهم معاملة طيبة ويعملون لأولادهم لكن لو كان فيه خير ذلك الذي جاء إليه الابن يشتكي أباه لقال له: لا.
هذا أبوك، وهو سبب وجودك، وسر وجودك في هذه الحياة وهو جنتك ونارك، كيف لك أن تبدل أباك؟ ما عليك إلا أن تصبر على قسمتك، ليس هناك أب غيره لك.
وبعض الناس إذا سمعك تتكلم عن أولادك تقول: والله أنا فلان زعلان منه أو فلانة -الزوجة- أنا زعلان منها، قال مباشرة: هذا جيد، بدل أن يقول: لا والله أبداً ولدك فيه خير، ولدك جيد، يجعل لك أملاً في ولدك، لكن من حين أن تقول له: والله فلان قال: أي والله إنه خبيث -أعوذ بالله- وبدأ يعلمك حتى يجعلك عدواً لولدك، أنت لا تريد أن تكون عدواً لولدك ولا تريد أن أحداً يبلغك عن أهلك ولا عن زوجتك ولا عن أولادك سوءاً، فإذا أحد شكى عليك لا تزد الطين بلة، هو يبث لك من أجل أن تعزيه ومن أجل أن تفرحه، لا من أجل أن تحزنه وتقتله.
لا حول ولا قوة إلا بالله!