يقول الله عز وجل -كنوع من الشرح بالنسبة للآيات الكريمة-: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ}[البقرة:٢٧٥] أي: يوم القيامة من قبورهم: {إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ}[البقرة:٢٧٥] أي: يصرعه الشيطان فيخبطه تخبيطاً من جهة الجنون، فإذا بعث الله الناس يوم القيامة وخرجوا من قبورهم مسرعين يخرجون وهم عقلاء إلا أكلة الربا فإنهم يقومون ويسقطون ويقعون على وجوههم وجنوبهم وظهورهم كما يحصل للمصروع، وسر هذا: أن الحرام الذي أكلوه بطريق المكر والخداع والمحاربة لله عز وجل ولرسوله رَبَا في بطونهم؛ لأنه رِبا، ورَبَا: أي: كبر، حتى نفخها وأثقلها، ولذلك لما قاموا من قبورهم عجزوا عن حمل بطونهم؛ لأنه يأتي وبطنه مثل الجبال يوم القيامة، كل ريال دخل عليه من الربا يحشره الله وهو في بطنه يأتي به يوم القيامة، وصاروا كلما أرادوا الإسراع والسير مع الناس سقطوا وتخلفوا، ومعلوم أن النار التي تحشرهم إلى الموقف كلما سقطوا أكلتهم، وزاد عذابهم، فجمع الله عليهم في الذهاب إلى الموقف عذابين عظيمين: التخبط، والسقوط في النار ولفح جهنم وأكلها لهم وسوقها لهم بعنف -أعاذنا الله وإياكم من ذلك-.
السبب في هذا:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ}[البقرة:٢٧٥] أي: العذاب الشديد الذي أذاقهم الله عز وجل بسبب قولتهم الفاسدة وحكمهم القياسي المنكوس الذي بنوه على عقولهم القاصرة حين قدموها على النص الشرعي فقالوا: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا}[البقرة:٢٧٥] .
هذه الكلمة للكفار، يقولون: البيع مثل الربا، لماذا يحل الله البيع ويحرم الربا، وهذه كلها سواء؟ وجعلوا الربا أصلاً وجعلوا البيع مقيساً عليه، مبالغة في حله، ومحبة له، واعتناءً بشأنه، ووجه القياس فاسد؛ لأنهم تخيلوا أنه كما يجوز شراء الشيء بعشرة ريال ثم يبيعها الإنسان بأحد عشر ريالاً، يجوز أن يشتري عشرة ريال ويدفعها بعد ذلك أحد عشر ريالاً، إذ لا فرق عندهم في هذه الصور، مع حصول التراضي من الطرفين، وغفلوا أن الله عز وجل الذي شرع الشرائع ونزَّل تحريم هذا الأمر وحد لنا حداً ونهانا عن نهي، فوجب علينا كعبيد لله امتثال ذلك؛ لأن حدود الله لا تقابل بقضايا الرأي والمنطق والعقل، بل يجب تقديم أمر الله عز وجل سواء فهمنا أو لم نفهم، هذا هو شأن العبيد وشأن التكليف، والعبد الضعيف القاصر المحدود ذو الرأي الناقص وذو العقل السقيم يتعين عليه الاستسلام لأمر الله عز وجل القوي القادر العليم الحكيم الرحمن الرحيم.
ومتى حكم عقله وعارض أمر سيده ومولاه انتقم الله منه، وأذاقه العذاب الشديد {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ * إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ}[البروج:١٢-١٣]{إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ}[الفجر:١٤] .
ثم قال عز وجل:{فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ}[البقرة:٢٧٥] أي: من زلَّت به القدم، وغفلت به الرجل، وسار في هذا الطريق، ووضع أمواله في الربا، ووصلته النصيحة، وبلغه الأمر:{فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ}[البقرة:٢٧٥] أي: يغفر الله خطيئته الماضية: {وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ}[البقرة:٢٧٥] أي: تجاهل وشاقَّ الرسول وعصاه وتعالى على أمر الله وارتفع عليه: {وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[البقرة:٢٧٥] واحد تقول له: الربا حرام وهذا الدليل فيه من كتاب الله ومن سنة رسول الله ويقول: صدقت، ويستمر في الربا والمعاوضة، هذا متعالي على أمر الله، إذا كان الله عز وجل هدد من يرفع صوته على الرسول أو يجهر له بالقول كجهره لأحد إخوانه في الله أن يحبط عمله، قال:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ}[الحجرات:٢] أي: عند المحادثة معه {كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ}[الحجرات:٢] تحبط: أي تفسد وتبطل وترد، مهما كانت وأنتم صحابة، وهذه الآية نزلت في الصحابة، وحكمها معهم؛ لأن الرسول لا يرفع صوته عليه إلا وهو حي، ولكن العلماء أخذوا منها القياس قالوا: إذا كان من يرفع صوته أو يحادث الرسول محادثة كمحادثته لأخيه يوشك أن يحبط الله عمله، فكيف بمن يخالف أمر الرسول صلى الله عليه وسلم؟! كيف بمن يشاقه؟! والله يقول:{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً}[النساء:١١٥] وفي صحيح البخاري وصحيح مسلم: لما نزلت هذه الآية افتقد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابت بن قيس بن شماس، وهذا صحابي جليل وكان خطيب النبي صلى الله عليه وسلم كان جهوري الصوت قوي الحجة والبيان، إذا جاءه الخطباء يقول: أين ثابت؟ كما أن حسان شاعر النبي فـ ثابت خطيب النبي صلى الله عليه وسلم، فلما نزلت هذه الآية خاف الرجل وصار يصلي ويخرج من المسجد إلى البيت، ويغلق على نفسه بالغرفة، ولا يفتح لأحد، فافتقده النبي صلى الله عليه وسلم فسأل عنه سعد بن معاذ رضي الله عنه وقال:(يا أبا عمرو! ما صنع ثابت وأين هو؟ أيشتكي من مرض؟ قال: يا رسول الله! ما علمت عليه شكوى، إنه جاري) يقول: عرفت أنه ليس مريضاً؛ لأنه جاري، والجار يعرف عن جاره ليس مثل الآن، الجار يموت لا يدري عنه جاره الآن؛ لانقطاع الصِلات الإيمانية بين الناس، يقول:(إنه جاري ولو كان مشتكياً لعلمت ولكن آتيك بخبره، فخرج من مجلسه وطرق الباب على ثابت قال له: ما لك إن الرسول يسأل عنك؟ فقال: آية نزلت في كتاب الله أخشى أن يحبط عملي بسببها؛ لأني جهوري الصوت، وأخشى أن أرفع صوتي على رسول الله وأنا أكلمه أو أحدثه، مثلما أحدث واحداً منكم وأجهر بالقول كجهري لأحدكم فيحبط عملي، فلما رجع سعد بن معاذ إلى النبي وأخبره قال: لا.
بل يعيش سعيداً ويموت شهيداً ويدخل الجنة) وبشره الله، وهو من المبشرين بالجنة رضي الله عنه وأرضاه؛ لأنه لا يشاق الرسول ولا يعصي الرسول صلى الله عليه وسلم ولكن هنا:{وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[البقرة:٢٧٥] .