أقص عليكم قصة من الواقع، وليست من نسج الخيال، هذه القصة هي أن امرأة كان لها ولد، أرسلته في طلب العلم إلى قرية بعيدة عن قريتها، وأوصت به القافلة التي ذهب معها خيراً، ولما ودعته ربطت في جيبه مائة وخمسين ريالاً، وقبلته في وجهه وقالت له: يا بني! أوصيك بتقوى الله والصدق، فحفظ الولد الوصية ومشى في الطريق، وبينما هم في الطريق اعتدى عليهم بعض اللصوص وقطاع الطريق، فربطوا الرجال وأخذوا الأموال، ثم أتوا يفتشونهم واحداً واحداً، حتى مروا على هذا الولد، فلما أتوا يفتشونه قال لهم زعيمهم: دعوه لا تفتشوه، ليس معه شيء -يعني: أنه ولد ليس معه شيء- فقال الولد: لا.
بل معي مائة وخمسون درهماً، فقال زعيمهم فتشوه، ففتشوا وإذا بمائة وخمسين درهماً.
فاسترعى انتباههم هذا الموقف، وقالوا له: نحن قلنا: ليس معك شيء، لماذا تقول: أنا عندي مائة وخمسون درهماً؟ فقال: إن أمي أوصتني حينما بعثتني فقالت: عليك بتقوى الله والصدق، فإن الصدق يوصل إلى الجنة، وإني خشيت أن تتركوا المائة والخمسين هذه فأكون كذَّاباً فتوصلني إلى النار -يقول الولد هذا الكلام ببراءة ولطف، أي: هناك نظافة فطرية- فهز هذا الموقف زعيمهم أعظم هزة، ووقع في قلبه أعظم وقع، أعظم من ألف موعظة، وقال في نفسه: طفل صغير لم يبلغ الحلم لا يريد أن يكذب ويدل على المال الذي عنده وهو حلال له، وخشي أن يحول هذا بينه وبين الجنة، فيدخل النار، وأنا عاقل كبير أسرق الأموال وأهتك الأعراض وأقطع السبل، ولا أخشى النار، ثم التفت إلى الذي بجانبه من الرجال وقال: ما أنا فيكم؟ -وهو فحل بطل- قالوا: أنت سيدنا وكبيرنا، فقال: كلامكم وطعامكم وشرابكم علي حرام إن لم تؤمنوا بما أسير فيه، فقالوا: معك في السراء والضراء، ثم قال: أين تذهبون يا جماعة، قالوا: نريد المدينة، ثم قال للولد: وأنت؟ قال: أريد العالم الفلاني، ثم قال فكوا الرجال، ففكوا الرجال، ثم قال: ردوا الأموال فردوا الأموال، ثم قال: أنا معك يا فتى أريد أن أطلب العلم، فذهبوا معه حتى دخل القرية والتحق بالعالم وطلب العلم، وتاب وأصبح من خيار السلف.
إذاً ما هو السبب؟ الصدق.
فلو أن هذا الولد سكت لنجا بالمائة والخمسين، ولكن ما كان للقافلة أن تنجو، ولن ينجو من العهدة والمساءلة، ولكن صدق فنجا، فكان لصدقه أثر في نجاة القافلة كلها، وكان لصدقه أثر في توبة قاطع الطريق ونجاته، ويأتي يوم القيامة وهو في ميزان حسناته، فالصدق نجاة.