[الوعيد الشديد لأصحاب الغلول]
ونعود إلى حديثنا السابق، هذا الحديث يرويه البخاري ويقول فيه: إن كركرة هذا كان على الغنيمة وبعد ذلك مات، ولما قال الصحابة إنه في الجنة، قال الرسول: (لا.
بل هو في النار) فذهبوا يبحثون ماذا عنده، فوجدوا عباءة غلها، يقول بعض أهل العلم: إن ثمن العباءة درهمان، لكنها حجزته عن دخول الجنة وأوردته النار، ولم تشفع له صحبته ولا خدمته للرسول صلى الله عليه وسلم، وفي مسند الإمام أحمد بسند صحيح أنه صلى الله عليه وسلم قيل له: (أُستشهد مولاك أو غلامك فلان، فقال: إنه يُجر إلى النار في عباءة غلها) أي: يُجر برقبته إلى النار في عباءة غلها.
وأخرج الإمام مالك في الموطأ، وأحمد في المسند، وأبو داوُد، والنسائي، وابن ماجة في السنن، أن رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تُوفي يوم خيبر، فذكروه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (صلوا على صاحبكم) أي: رفض أن يصلي عليه، فتغيرت وجوه الناس لذلك، فقال: (إن صاحبكم غل شيئاً مما هو في سبيل الله، ففتشوا متاعه فوجدوا فيه خرزاً من خرز اليهود) والخرز هو: عقد بسيط فيه خرز لا يساوي درهمين، ولكن هذا منع النبي صلى الله عليه وسلم من أن يصلي عليه، لأن صلاة الرسول موجبة.
وروى الإمام مسلم وغيره عن ابن عباس عن عمر رضي الله عنهما، قال: (لما كان يوم خيبر أقبل نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: فلان شهيد، وفلان شهيد، حتى مروا على رجل، فقالوا: فلان شهيد، فقال صلى الله عليه وسلم: كلا والذي نفسي بيده إني رأيته في النار في بردة غلها، أو عباءة غلها) ثم قال صلى الله عليه وسلم: (يا ابن الخطاب! اذهب فنادِ في الناس أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون) وهذه شهادة من النبي صلى الله عليه وسلم أن الإيمان لا يكتمل إلا فيمن توقى مثل هذه الأمور، واحترز من أخذ هذه الأموال العامة، والتي الوقوع فيها -والعياذ بالله- سببٌ لنكبة الإنسان.
وروى البخاري ومسلم في الصحيحين هذا الحديث -وهو حديث عظيم جداً، وطويل جداً، وواضح ليس فيه غموض- قال: (قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يومٍ خطيباً، فذكر الغلول، فعظَّمه وعظَّم أمره، ثم قال: لا أُلفين أحدكم يأتيني يوم القيامة -أي: لا أجدن أحدكم يأتيني يوم القيامة- على رقبته بعير له رغاء -لأنه أخذ من الغنيمة، والله يقول: {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [الأنعام:٣١]- فيقول: أغثني! أغثني! يا رسول الله! فأقول: لا أملك لك من الله شيئاً قد أبلغتك) أي يقول: خلصني يا رسول الله من هذا الحمل الذي على ظهري؛ لأنه غله في الدنيا، ولكن في يوم القيامة ما يستطيع أن يتخلص منه: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران:١٦١] .
أي: فلابد أن تأخذ معك هذا؛ لأنك أنت الذي أخذته من بيت مال المسلمين، استهنت بأمر الله فهو فوق ظهرك، ثم قال: (لا أُلفين أحدكم يأتيني يوم القيامة وعلى رقبته فرس له حمحمة -والحمحمة هي: صوت الفرس- فيقول: يا رسول الله! أغثني! فأقول: لا أملك لك من الله شيئاً قد أبلغتك، ولا أُلفين أحدكم يأتيني يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء -والثغاء هو: صوت الغنم- فيقول: يا رسول الله أغثني! فأقول: لا أملك لك من الله شيئاً قد أبلغتك، لا ألفين أحدكم يأتيني يوم القيامة على رقبته رقاع تخفق) .
والرقاع؟ قال العلماء: هي كل ما يغل من بيت مال المسلمين مما يلبس أو يفرش، فإذا كنت مدير مدرسة ولديك الألبسة الخاصة بالنشاط الرياضي ثم أخذت تُلبِس منها أولادك وعمالك وجيرانك من بيت مال المسلمين فاعلم أنك محاسب على هذا؛ لأن هذه جاءت للطلاب، فما ينبغي أن يلبس أحد أبنائك واحدة منها، بل إن هذا ممنوع أشد المنعِ.
أو كنت مثلاً في الشرطة أو في الجيش؛ فتأخذ من الملبوسات وتُلبس الناس من بيت مال المسلمين، هذا لا يجوز.
أو كنت مثلاً مسئولاً في أي إدارة؛ فتأخذ من الزوالي أو من الموكيتات أو من الكنبات أو من أي شيء كان؛ فإن هذا لا يحل لك، أو الخيام أيضاً، فالرقاع يشمل: الملبوس، والمفروش، والمسكون به.
فـ (رقاع تخفق) أي: تأتي بها، وهي تخفق فوق رأسك، لا حول ولا قوة إلا بالله! (رقاع تخفق، فيقول: أغثني يا رسول الله! فأقول: لا أملك لك من الله شيئاً قد أبلغتك، لا ألفين أحدكم يأتيني يوم القيامة وعلى رقبته صامت) والصامت هو: الجماد، فأي شيء صامت مثل: دبوس محفظة قلم دفتر كتاب كرسي طاولة سيارة أدوات أو أي شيء خاص بالمكتب؛ فإنه لا يجوز لك أن تأخذه.