[ترك الاستنزاه من البول]
أما السبب الثاني من أسباب عذاب القبر: ترك الاستنزاه من البول، يقول علي وقد مر على المقبرة قال: [إن هذه القبور ظاهرها تراب، وباطنها حسراتٌ أو نعيم أو عذاب] ظاهر القبور سواء، لكن لا تعلم ماذا يدور داخلها، وأكثر عذاب أهل القبور من عدم الاستنزاه من البول؛ لأن الإنسان يكون مستعجلاً أو عنده عمل، فما أن ينقطع البول حتى يقوم دون أن يستنزه، وهذه مصيبة، والشيطان استغل هذه المسألة وتجاوز بها الحد عند كثيرٍ من الناس، ووقف بها دون الحد عند الكثير، الدين وسط، لا إفراط ولا تفريط؛ لأن الدين كما يقول الله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة:١٤٣] وابن القيم يقول: إن الشيطان يأتي إلى الإنسان فيشم قلبه، فإن رأى فيه قوة دين، يوسوس له حتى يخرجه من الدين، وإن رأى فيه ليناً وضعفاً قصر حتى لا يصل إلى الدين الصحيح، فإذا شاهد الشيطان في قلب الإنسان قوة دين وحرص لا يزال يوسوس له حتى يخرجه بالغلو والتنطع إلى خارج الدين، وإذا شاهد عنده ضعف ولين وخور وقلة احتراز فإنه يقصره وحتى لا يصل إلى الدين، ولا يصل إلى الدين الحقيقي إلا أهل الإيمان والاعتدال، كيف؟ يخرج الإنسان إلى الخلاء ويقضي حاجته حتى ينقطع البول، ثم بعد ذلك يمر يده هكذا على العضو، إمراراً بسيطاً ويسمونه في الفقه سلس، دون نترٍ؛ لأن النتر كرهه أهل العلم؛ لأنه يؤدي إلى تمزق في الأعضاء، سلس خفيف ثم بعد ذلك يستنجي، وإذا فرغ يأخذ حفنة من الماء وينضح بها سرواله، حتى إذا قام ليصلي ووجد بللاً في ثوبه أرجع ذلك إلى الماء الذي نضحه، حتى لا يلعب عليه الشيطان، فإن الشيطان يأتي إلى بين فخذي الإنسان إما من دبره فيغمز على عرقٍ صغير فيوهم الإنسان أنه أحدث، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا ينصرف من صلاته حتى يجد ريحاً أو يسمع صوتاً) ما لم تجد ريحاً أو تسمع صوتاً لا تخرج هذه من الشيطان؛ لأنه يغمز على عرق في الدبر، فهذا العرق يوهمك أنه خرج شيء، وهو ما خرج شيء، لا يمكن أن يخرج شيء إلا بعلمك، لكن هذه من الشيطان نزغة، أو يأتي إلى بين سبيلي الإنسان فيشعره ببرودة فيحس الإنسان ببلل وعرق، ويتصور الشخص أن هذا البلل من البول، فأنت تقطع دابر الشيطان وتقطع وسواسه بنضح الماء، أما ما يصنعه الموسوسون من النتر ومن القفز ومن الحبل، يربط الحبل بالسقف ويتسلق إلى أن يصل إلى أعلى، فإذا هو فوق انفلت يقول: من أجل إذا اهتززت ينزل كل شيء، هذا كله ليس من دين الله عز وجل، وإنما من وساوس الشيطان.
وما يفعله -أيضاً- المتساهلون بمجرد أن يكمل وإذا به يقوم مباشرة ويذهب هذا كله خطأ، والصحيح أن تفعل ما ذكرنا حتى تستنزه من البول وتبرأ إلى الله عز وجل من هذا الأمر.
روى النسائي عن عائشة رضي الله عنها قالت: (دخلت عليّ امرأة من اليهود فقالت: إن عذاب القبر من البول) هكذا عندهم في اليهودية وهو من العلم الذي لم يُحرف، مثلما تسمعون الآن وما سمعتم في الماضي، (فقالت: - عائشة - كذبت) هذا القول يبين صفة من صفات الصحابة وهي وحدة التلقي، ما كانوا يتلقون إلا من الله ورسوله فقط، حتى ولو شيئاً صحيحاً يأتي من طريق اليهود يقولون: كذبتم لا نريد إلا أن يصدقه رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا صدقه رسول الله أصبح من ديننا ليس من دين اليهود، قالت: (كذبت.
قالت: بلى.
إنا لنقرض منه الجلد والثوب) يعني: في دينهم وهو من الآصار التي وقعت عليهم، أن البول إذا وقع في الثوب لا ينظفه الماء، وإنما يقرض -يقطع- الثوب، وإذا وقع البول على الجلد لا يغسله الماء وإنما يسلخ الجلد، ولكن الله رفع عنا هذه الآصار بفضله ورحمته {رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} [البقرة:٢٨٦] سبحان الله! كان الرجل لا يمكن أن يصلي إلا في معبد مخصص، لكن الله أعطى هذه الأمة كرامات عظيمة جداً لكرامة رسولها صلى الله عليه وسلم، من ضمن ذلك أنه جعلت له الأرض مسجداً وطهوراً، فأينما أدركت الصلاة فصل، وبأي وجه توجه إلى القبلة، وأيضاً إذا جاء الغائط أو البول في ثوبٍ أو في جسدٍ فإنك تغسله بالماء، ويطهر، كما أمر الله عز وجل وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم.
قالت: (فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة وقد ارتفعت أصواتنا قال: ما هذا؟ -عندما سمع الصوت- قالت: فأخبرته فقال صلى الله عليه وسلم: صدقت) صدقت اليهودية أن عذاب القبر من البول، قالت: (فما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً إلا قال دبر كل صلاة: اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل أعذني من حر النار وعذاب القبر) رواه النسائي في سننه وذكره صاحب جامع الأصول.
وهذا الذي أشار إليه الحديث أن بني إسرائيل كانوا يقرضون من البول الجلد والثوب وهو من الدين الذي شرعه الله لهم، ولذلك لما نهاهم من نهاهم عن فعل ذلك عذب في قبره لسبب نهيه، ففي حديث عبد الرحمن بن حسنة والحديث رواه أبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجة وابن حبان والحاكم وصححه وأخرجه السيوطي في صحيح الجامع، يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ألم تعلموا ما لقي صاحب بني إسرائيل) رجل كان منهم، جاء إليهم وهم يقرضون الثياب ويسلخون الجلد، فقال لهم: إنما يكفيكم الغسل، أبطل عليهم هذا الأمر، ونهاهم عن القرض، فعذب في قبره إلى يوم القيامة؛ لأنه أبطل شيئاً من دين الله وليس بنبي يوحى إليه.
وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم: أن عامة عذاب القبر من البول، فقد روى أنس رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (تنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه) ورواه ابن عباس بلفظٍ آخر: (عامة عذاب القبر من البول، فتنزهوا منه) ورواه أبو هريرة بطريق آخر ولفظٍ آخر: (أكثر عذاب القبر من البول) وهذا الحديث صححه الشيخ ناصر الدين الألباني في إرواء الغليل وقال: حديث صحيح.
هذه الأحاديث في مجملها وفي مجموعها تعطي لنا تصوراً أن كثيراً من الناس يتساهلون بموضوع الطهارة من البول، ولذا فإنهم يعذبون في قبورهم كما جاء في الحديث: (إن عامة) يعني: إن أكثر عذاب القبر إنما يكون من هذا الأمر -نعوذ بالله وإياكم من ذلك-.
هذان سببان من أسباب عذاب القبر، نقف عندهما هذه الليلة ونذكر البقية على سبيل الإجمال.