[الاستعانة بكتب العلماء وفتاويهم لتصحيح المفاهيم]
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فإن هناك ظاهرة تدل على كمال الصحة إن شاء الله، وهي: ظاهرة تدافع الشباب، وتسابقهم في الحضور إلى مجالس الذكر وحلق العلم، وهذه تبشر بخير، وتدل على أن الصحة والعافية الإيمانية بدأت تدب في أجساد الأمة، وفي جسد أهم عنصر من عناصر الأمة ألا وهم الشباب، فإن الشباب هم الذين على أكتافهم تتحقق إن شاء الله أماني الأمة، وهم الذين دخلوا في دين الله على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وغيروا وجه التاريخ ومساره حينما استقرت حقائق ومفاهيم الإيمان في قلوبهم.
أما الشيوخ والذين قد تحجرت رءوسهم على الكفر فإنهم رفضوا دعوة الإسلام، فقد دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم سنوات طوال فما استجابوا، ولكن الذين استجاب هم الشباب، وقامت دولة الإسلام وحضارة الإسلام على جهود وأكتاف الشباب في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم.
وهذا تاريخ الأمة المقروء يشهد بأن الشباب إذا التزموا بالدين واهتدوا بهديه؛ حقق الله على أيديهم نصرة الإسلام، ولكن يشترط لهذا التوجه ولهذه الصحوة الطيبة المباركة أن تكون في الطريق الصحيح، أي: طريق الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن الشيطان كما يجتهد ويحرص كل الحرص على تثبيطهم والوقوف بهم دون الوصول إلى الدين، فهو أيضاً حريص إذا رأى عندهم الحماس والغيرة على أن يقفز بهم خارج الدين، وهو ما يسمى في الدين بالغلو.
والغلو هو: تجاوز الشيء أي: تجاوز الحد، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: (إن هذا الدين عميق، فأوغلوا فيه برفق) وقال: (لن يشاد الدين أحد إلا غلبه) والاعتدال المطلوب هو: هدي الرسول صلى الله عليه وسلم والتمسك بسنته، وهديه صلى الله عليه وسلم واضح كما قال: (تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك) أي: لا غبش فيها، بل هي واضحةٌ وضوح الشمس في رابعة النهار، ولكن هناك من يَخفى عليه هذا الوضوح؛ لغبش في نظرته أو في تصوره أو في طريقة تلقيه، والذي يجدر بالشباب ألا يتلقوا علومهم هكذا بمجرد الاجتهاد، واقتباس الأحكام من النصوص، بل يجب أن يكون لهم قدوة في استخراج النص؛ لأن رؤية العالم تختلف عن رؤية طالب العلم، فرؤية طالب العلم رؤية محدودة من زاوية ضيقة، فهو لا ينظر إلا إلى هذا النص، ولكن رؤية العالم من المحيط أوسع؛ لأنه يعرف أغلب نصوص الشرع، فيعرف المطلق والمقيد والخاص والعام والناسخ والمنسوخ، والصحيح، والحسن، والضعيف، فيقدم ويؤخر، ويحقق حتى يوازن بين الأحكام.
فالآن إذا كان هناك شخص أمامك، وتريد أن تنظر إليه من زاوية أو مجال أو مسار ضيق، فإنك تضع مثلاً بينك وبينه أنبوبة نصف بوصة، ثم تنظر إليه بعين فلا ترى سواه، لكن لو أبعدت هذه الأنبوبة، ووسعت مجال الرؤية لرأيته ورأيت أشياء تحيط به، فأنا الآن أنظر إلى واحد منكم، ورغم أن نظري إليه وتحقيق عيني في عينيه إلا أني أرى البقية كلهم، فأرى الأعمدة والمروحة؛ رغم أن تحقيق عيني فيه فقط، لكن لما كان مجال الرؤية عندي أوسع فإني أرى كذلك كل إنسان منكم.
فالعالم إذا نظر إلى الشرع وإلى مقاصد الدين وأهداف الإسلام من منظورٍ واسع، فإن هذا النظر أو هذه الرؤية أو النظرة غير المحدودة سوف تعطيه أحكاماً واسعة، بينما النظرة الضيقة لن تخرج لنا سوى الحكم ضيقاً.
ولذا ينبغي على الشباب إذا وجد آية من كتاب الله، أو نصاً من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يفهمه مباشرةً على مراده، بل يرجع فيه إلى كتب السنة، ويعرف ماذا قال العلماء في هذا النص؟ فإنك مثلاً لو قرأت كتاب سبل السلام فإنك سوف تجد الحديث، وتجد بعده حديثاً يناقضه، أي: ضده (مائة بالمائة) فإما أن يكون ناسخاً له، أو يكون مقيداً، أو يكون عاماً، أو يكون مطلقاً، أو يكون له وجهة نظر، فتجد العلماء يأتون إلى هذه الأحاديث بعقل كبير وبرؤية واسعة، فيضعون لها جواباً، لكن لو بقيتَ فقط على هذا الفهم عند هذه الأدلة لصارت مصيبة.
فهناك من الناس من اطلع على حديث في صحيحي البخاري ومسلم من حديث أم عمارة نسيبة بنت كعب رضي الله عنها، قالت: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نخرج الحُيَّض والعواتق وذوات الخدور يشهدن الخير ودعوة المسلمين في المصلى) يعني: في صلاة العيد، فهذا المسكين ذهب إلى بيته وأخرج النساء كلهن وجعلهن يصلين كلهن، حتى الحُيَّض اللاتي هن ممنوعات من الصلاة جعلهن يصلين؛ لأنه فهم أمر الرسول صلى الله عليه وسلم على غير المراد، فالحديث صحيح في أن الحيض يخرجن من أجل الصلاة، فقد قال العلماء في هذا الحديث قولان: القول الأول: أنه صلى الله عليه وسلم أمرها أن تخرج ولكن تعتزل الصلاة بل في بعض طرق الحديث: (أما الحُيَّض فيعتزلن المصلى، ولكن يشهدن الخير ودعوة المسلمين) وقال بعض أهل العلم: لا.
أمر الحُيَّض أي: البوالغ، وهن اللاتي بلغن سن المحيض، واللاتي هن دون سن المحيض ببالغات فلا يخرجن.
فهذا الأخ فهم من النص أن الحائض تخرج إلى المسجد وتصلي، وهذا فهم من النص ولكنه من ظاهره، فلو أنه رجع إلى كتب أهل العلم، لعلم أكثر مما توصل إليه علمه، فهديه صلى الله عليه وسلم أكمل الهدي، وهناك كتاب عظيم جداً اسمه (زاد المعاد في هدي خير العباد) صلوات الله وسلامه عليه ألفه العلامة الإمام ابن القيم تلميذ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وتعرض فيه لما ورد في السنة من هدي الرسول صلى الله عليه وسلم، وبين في مقدمة الكتاب فقال: إننا لن نتعرض في هذا الكتاب لما يجوز وما لا يجوز، ولكننا تعرضنا لهديه الذي كان يداوم عليه، فإن هديه أكمل الهدي وخير الهدي صلوات الله وسلامه عليه، فإذا أردت أن تعرف هديه؛ فارجع إلى هذا الكتاب وإلى غيره من كتب العلماء المحققة، مثل: (صحيح البخاري) ، وشرحه: (فتح الباري) ، ومثل: (عون المعبود شرح سنن أبي داوُد) ، ومثل: (تحفة الأحوذي شرح سنن الترمذي) ، ومثل: (سنن النسائي) وشرحها، ومثل: (شرح صحيح مسلم) للإمام النووي، كل هذه الكتب تجد الشروح فيها واضحة جداً، بحيث تخرج بعلم عن الحديث الواحد.
وهذه المقدمة أردتُ بها تصحيح بعض المفاهيم والإشارة إلى سؤال سأله أحد الإخوة يقول فيه: إنك قلت: إنه لا يجوز حجز الأماكن في المسجد؛ لأن المسجد مناخ من سبق مثل منى، ولأن الأولوية للأول، و (خير صفوف الرجال أولها) ، والغرض حث الرجال على المبادرة: (ولو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا عليه) يقول: ففهمنا هذا، ولكن بعض الإخوة فهم أيضاً أكثر من ذلك، فبعض الإخوة دخل وصلى وجلس يقرأ القرآن حتى إذا ما قرب وقت المغرب أحس بحاجةٍ إلى الخروج وتجديد الوضوء، فترك غترته في الصف وخرج، فجاء أحد من الناس وأخذ غترته، ورماها وصلى مكانه، وقال: لا يجوز!
و
الجواب
إن هذا فهم غير ما نقول، فهذا المكان مكان هذا الأخ في الأصل، فلم يحجزه له أحد، بل حجزه لنفسه، فهو جاء وصلى وجلس وذكر الله، ولكن انتابه عارض ألزمه بالخروج ليتوضأ، فمادام أنه خرج لغرض يخدم الصلاة ومتعلق الصلاة، فإن له أحقية في هذا المكان، أما أن يرسل من يحجز له، أو يوصي من يحجز له، فلا، أردت من هذا توضيح أنه من الممكن أنك إذا كنت في المسجد، وأردت أن تخرج لغرض يخدم الصلاة فقط فإنه يجوز لك أن تحجز المكان، وليس لقضاء أي حاجة أخرى، فلو خرجت لغرض خاص بالصلاة، كأن تتوضأ مثلاً ثم ترجع فليس هناك مانع، والأولى أن يكون الإنسان مستعداً للصلاة قبل الدخول إلى المسجد، حتى لا يؤدي خروجه من المسجد إلى إذهاب مكانه، أو ربما إذا دخل وجلس في المكان يتصور الناس أنه حجز هذا المكان فيسيئون الظن به، فلهذا أوردت هذه المقدمة قبل الكلام.