للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[بعض صور الغلول]

الذي نوصي به إخواننا وأنفسنا: تقوى الله عز وجل، والحرص على عدم أخذ شيء من الحق العام للمسلمين، ويدخل في هذا الانتدابات كمن يُطلب منه أن يقوم بمهمة خارج مقر عمله، ويُحدد له لقضاء هذه المهمة أسبوعاً مثلاً، فيقضي المهمة في يومين أو ثلاثة ثم يرجع وينام في البيت بقية الأيام، ثم يقدم البيان أنه أكمل هذه المهمة في أسبوع فهذا حرام.

كذلك من يجلس في مهمة يُمططها، كأن تنتهي هذه المهمة في يوم أو يومين، ولكن لا ينجز منها في اليوم الأول إلا ربع ساعة، وفي اليوم التالي ربع ساعة؛ حتى يجلس شهراً كاملاً في رحلة انتداب، وكان من الممكن أن ينهيها كلها في يوم أو يومين، وهذا كله من أجل أن يأخذ انتداباً، وما علم أن هذا الانتداب زاد له إلى النار.

ويدخل في ذلك العمل الإضافي الذي يأخذه الموظفون، والذين يقومون بتكديس المعاملات، وتأخيرها، والانشغال عنها بالأكل في المكاتب، والمكالمات الهاتفية، وقراءة الجرائد، ومتابعة أخبار الدوري، والتهرب من العمل، وبعدها يأتي بالمعاملات في آخر الدوام عند الأستاذ أو المدير، ويقول: أطال الله عمرك! كيف أعمل بهذه؟! لا أستطيع أن أنجزها! فيقول له المدير: ماذا تريد؟ قال: أريد عملاً إضافياً شهراً أو شهراً ونصف، فالسنة المالية على الأبواب وأنا مسئول، وإلا فلن أتحمل المسئولية فيما بعد، فيقول المدير: تفضل ويعطيه، هذا المدير خائن، فقد كان من المفروض ألا يعطيه إضافياً، بل يحمله على القيام بالواجب رغماً عنه ولا يعطيه شيئاً؛ لأنه هو الآن قد غرق فلم يعد قادراً على أن يحلل لقمة عيشه التي يأخذها؛ لأنه يأتي متأخراً، فلا يحضر إلى الدوام إلا الساعة التاسعة أو التاسعة والنصف، والمراجعون أكوام على أبوابه وهو يرفضهم ويدخل ويغلق عليه الباب.

وأنا مرة من المرات كان عندي معاملة، فدخلت في إحدى الإدارات على أحد الموظفين فأعطيته المعاملة، فقال لي: تفضل اجلس، فجلست حتى تضايقت وهو في مكالمة مع زميل له، وأنا مشغول وعندي عمل، وبعد ذلك عندما وضع السماعة، قال لي: ما عندك؟ ومرة أخرى يكلم شخصاً آخر ربع ساعة أيضاً، وهذا ربع وذاك ربع، وبعد ذلك أغلق السماعة، ثم أخذ معاملتي وقال: اذهب بها إلى القسم الثاني، قلت: لماذا لم تقل لي من البداية يا أخي؟! تربطني نصف ساعة من أجل مكالمتك، وبعد ذلك تقول لي: اذهب إلى القسم الثاني، إنا لله وإنا إليه راجعون! فهذا حرام في دين الله، وخيانة للأمة، وخيانة لولي الأمر، فولي الأمر مؤتمن ومسئول عن هذه الأمة، وقد وزع مسئوليته على الأفراد، وكلٌّ مسئول عن رعيته يوم القيامة، (وما يلي أحد أمر اثنين إلا جاء يوم القيامة ويده مغلولة إلى عنقه، يُطلقه عدله أو يوبقه ظلمه) .

فلا تتصور يا أخي أنك لست مسئولاً إذا كنت موظفاً، لا.

بل والله لو كنت موظفاً على الصادر والوارد فقط، فإنك مسئول في أن تحرر المعاملة، وأن تسجلها بوضوح، وإذا جاءك المراجع تعطيه خدمة ممتازة، فتقوم بخدمته وتراجع له ما يحتاج بالسجلات، وتبحث له في الملفات، وتعطيه الرقم بأحسن عبارة، فهذه أمانة، لكن كونك تؤخر عمله، ثم تأتي تأخذ عملاً إضافياً وتأكل حراماً، لا.

هذا كله غلول.

ولا ينبغي أن يؤخذ من بيت مال المسلمين شيء بغير حق، إلا بحق شرعي نظير أجرتك التي أنت بذلت فيها عرقك في عملك هذا، وما دخل عليك بغيرها فهو حرام.

ويدخل في هذا أيضاً الهدايا، هدايا المسئولين، فإذا كنت مديراً لمدرسة من المدارس مثلاً وعندك طالب في السنة السادسة جاملته لأن أباه وضع في (الحوش) خروفاً، وقال لك: ولدي عندك في المدرسة، فقلت له: ما المسألة يا فلان؟ فيقول لك: نعم.

المسألة عزمناك عزمناك عزمناك؛ فما جئت، ولا نريد أن نكلف عليك، لأننا نعرف أنك مشغول، فأحضرنا لك ذبيحة إلى البيت، لك أنت والأولاد، فتقول له: شكراً.

فإذا جاءت الامتحانات تكون عينك على هذا الخروف (أبو مرقة) أين هو؟ ولو نقص مائة علامة فلابد من أن تزيده، وتقول: لِلَجنة الرحمة ارحموه، هذا لديه (مرقة) عندنا -له خروف- هذا اسمه: غلول؛ لأن هدايا العمال كما جاء في الحديث: (هدايا العمال غلول) .

فإذا كنت في مكتب، وعندك وظيفة، وجاءتك هدية من شخص من أصحاب المعاملات التي عندك، كأن تكون مسئولاً عن المباني مثلاً، أو عن الأجور، أو الرواتب، أو الانتدابات، فتأتيك هدية سواءً من الموظف الذي أقل منك، أو من المراجع الذي يأتيك فيهدي لك كأس سمنٍ، أو عسلٍ، أو تمرٍ، أو زبيبٍ، أو شيءٍ مما يهدى، أو أن يسافر ويأتيك عند عودته بهدية: بساعة، أو بقلم، وأكثر المدرسين يهدون هدايا للمدراء.

حتى أن هذا المدير لا ينسى هذا المدرس بأي حال من الأحوال؛ لأن الإنسان عبد الإحسان، فإذا أحسنت إلى أحد من الناس فإنك تستعبده بذلك، والإسلام ينزه المسلم عن هذا، حتى يكون عدلاً في قضاياه وفي تعامله مع الآخرين.

(هدايا العمال غلول) فلا ينبغي أن تقبل هديةً من أحدٍ، وأنت في منصبٍ إلا بشرطٍ واحدٍ، قالوا: إذا كان يهديك قبل المنصب، يعني: بينك وبين أحد خلة وصداقة وقرابة، وهو يهديك وأنت تهديه قبل أن تصير في هذا العمل، فهذا ليس فيه شيء، أما إذا صرت في المنصب وجاءتك الهدايا، فانظر بعد أن يذهب عنك المنصب من الذي يهدي لك، والله لن يلقوا عليك حتى السلام.

فقد ورد في السير أن عبد الله بن اللتبية وهو صحابي استعمله النبي صلى الله عليه وسلم على الزكاة، فذهب وأتى بالزكاة، فلما رجع من الزكاة جاء ومعه شيء من الزكاة ومعه شملة- بردة على ظهره- وقال: فأما هذه فلبيت مال المسلمين، وأما هذه فأهديت لي، فلما سمعه النبي صلى الله عليه وسلم غضب غضباً شديداً حتى لكأنه يفقأ في وجهه حب الرمان -وكان إذا غضب؛ علته الحمرة صلوات الله وسلامه عليه- ثم أمر أن ينادى: الصلاة جامعة، ولم يكن وقت صلاة، فجمع الناس، وقال: (ما بال أقوامٍ -وهذا من هديه صلى الله عليه وسلم، فما فضحه، فقال: ما بال أقوامٍ نستعملهم على الزكاة، فيذهبون ثم يعودون، ويقولون: هذا لبيت مال المسلمين وهذا أهدي لنا، أفلا قعدوا في بيوت آبائهم وأمهاتهم أكان يهدى إليهم شيء؟) فلو أنك لست في منصب أكان يهدى لك شيء؟ لا.

لكن الهدية ليست لك، بل هي رشوة تلبس ثوب الهدية: (وهدايا العمال غلول) كما قال صلوات الله وسلامه عليه.

<<  <  ج: ص:  >  >>