للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[اغتنام وقت الشباب قبل الشيخوخة]

الله أكبر! ليس كأكثر شباب هذا الزمان، الذي إن قلت له: يا أخي! اتق الله، قال: يا شيخ إذا صرت كبيراً! فهو يريد أن يستغل شبابه مع الشيطان.

فيقول: دعني أغتنم شبابي الآن، وهذا هو مفهوم الشباب هذه الأيام، يقول قائلهم: دعني أستغل شبابي بالشهوات، والملذات، والسهرات، واللعب، والكرة، يقول: دعني أشبع من الشهوات، وإذا شبعت وصرت شيبة في تلك الساعة سأرجع إلى الله! لكن الذي لا ينفع في هذا اليوم لن ينفع فيما بعد.

إن الغصون إذا عدلتها اعتدلت ولا تلين إذا صارت من الخشب

فالغصن عندما يكون في الشجرة وهو أخضر تستطيع أن تعدله كيفما تشاء، لكن إذا صار عوداً، فيظل كما هو إلا أن تكسره، فقد رأينا كثيراً ممن شب على الضلال، لما شاب ما اهتدى، لماذا؟ لأن الكلام على المنبت وعلى البدايات، وعلى ضوء حسن البدايات تكون حسن النهايات.

وأذكر مرة من المرات أنني كنت آتياً من العمرة ووقفت في الطائف عند صاحب بنشر من أجل أن يتفقد لي هواء الإطارات، وكنت على سفر وأهلي معي في السيارة، ومتاعي فوقها وأنا آتٍ من العمرة، فوجدت هناك رجلاً كبير السن ربما في السبعين أو الثمانين من عمره، ولكن لا لحية له ولا شارب، أي: محلوق اللحية والشارب، واللحية زينة للرجل سواء في شبابه أو في شيبته، ففي شبابه وقار وهيبة، وفي شيخوخته ستر وهيبة ونور؛ لأنه ينبت فيها الشيب، والشيب نور: (ما من مسلم يشيب شيبةً في الإسلام إلا كانت له نوراً يوم القيامة) .

فهذا الرجل لما صار شيخاً كبيراً في السن وليس عنده ولا شعرة في وجهه، وأيضاً قد تجعد وجهه مع السنين، فظهر وجهه مثل وجه المرأة العجوز الكبيرة في السن، وكان يدخن بإسراف فيشعل الواحدة تلو الأخرى، فأشفقت عليه ورحمته من هذا الوضع الذي هو فيه، فجئت إليه وقلت: لابد أن أنصحه، وتساءلت كيف أنصح من مثل هذا الرجل في هذا السن؟ لابد أن أختار أفضل أسلوب وأحسن عبارة، فجئت وسلمت عليه، وتبسمت في وجهه، وأنا أقول في نفسي: لو أن الشيطان الرجيم لقيته ونصحته بهذا الأسلوب ربما يقول: جزاك الله خيراً، وهو الشيطان الملعون، لكن انظروا كيف كان رد هذا الرجل، قلت: السلام عليكم.

قال: وعليكم السلام.

قلت: كيف حالك يا والد بارك الله فيك، الحقيقة: يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (خيركم من طال عمره وحسن عمله) فأنت الحمد لله الذي مد في أجلك وطول في عمرك حتى بلغت هذا السن، والآن ذهب الشباب وشرته وحدته وطيشه وجهله، والآن أتى المشيب وحلمه ووقاره، فالحمد لله الذي مد في عمرك، وآن لك أن تقضي ثمرة حياتك في الذكر والعبادة، وانظر! أنا رأيت في السوق كثيراً من المدخنين، ولكني ما استطعتُ أن أنصح واحداً منهم إلا أنت؛ لأني رأيت علامات الدين والإيمان والنور في وجهك -ووالله لا أثر للإيمان في وجهه، لكن قلت: لعل الله أن ينفعه بهذه الكلمة- فما أردت أنصح إلا أنت، فحبذا! يا والدي جزاك الله خيراً أن تترك هذا التدخين، فأنت تعرف أن هذه الحياة فانية، وأنك ستموت وتدخل القبر وتسأل عن عملك -ثم استرسلت في الأسلوب والبيان والفصاحة والبلاغة، إلى أن قلت-: لا يسعه إلا أن يكون أحد رجلين: إما مهتدٍ مؤمن يقول: بارك الله فيك، وجزاك الله خيراً كما يقول كثير من الناس ويتوب، أو ضال -والعياذ بالله- ومعاند، لكن أمام الأسلوب وأمام الإطراء والثناء ما يسعه إلا أن يقول لي: جزاك الله خيراً.

ولكن أتدرون ماذا قال لي بعد أن انتهيت من هذه المقدمة والخطبة الطويلة العريضة؟ نظر إليَّ وهز رأسه ساخراً مستهتراً ثم قال لي: عجيب أنت مُطوع! الحقيقة لما قال هذا الكلام تغير الأمر، وانقلب الحال، فأنا قد أتعبت نفسي، وأريد أن يهديه الله، فما رفض إلا هذا الأسلوب، طبعاً هو كبير في السن لا يستطيع أن يضربني، وأنا لست شجاعاً، لكن قلت: سأقدر عليه، لكن المشكلة أن أولادي في السيارة وأنا على سفر، وما أريده أن يعطلني، وإذا صاح سوف تأتي الشرطة وتمسك بي وتصبح مشكلة، وإلا فإن يدي على وشك ضربه؛ لأنه ليس هناك لهذا الإنسان الذي يرفض هذا الأسلوب إلا أن يعطى درساً يُؤَدَّبُ به حتى يبعد ما في رأسه من خبال، لكن ليس بإمكاني شيء.

فتذكرت حلم النبي صلى الله عليه وسلم، وما كان يتعرض له من الإهانات، وذكرت حلم إبراهيم بن أدهم الذي يحكى عنه أنه كان يسير في طريق، فمر عليه يهودي ومع اليهودي كلب يسحبه بحبل، فقال له: يا إبراهيم! ذنب كلبي أطهر أو لحيتك؟ -لو قيلت هذه الكلمة لواحد منا؛ فلا يرده إلا أن يذبحه مباشرةً! - قال: إن كنتُ من أهل الجنة فلحيتي أطهر من ذنب كلبك، وإن كنتُ من أهل النار فذنب كلبك أطهر من لحيتي.

فقال اليهودي: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله! والله ما هذه إلا أخلاق الأنبياء، يقول: هذا الخلق لم يأتك من السوق، لابد أنه من أخلاق النبوة، ودخل في دين الله عز وجل.

فلما تذكرت هذا الكلام أمسكت نفسي، ولكني ما صرت مثل إبراهيم بن أدهم، بل قلت له: انظر أنا دعوتك إلى الله وأَبَيت، وبإمكاني أن أجيب عليك، ولكن أَكَلُكَ إلى من يقتص منك ويجازيك، أحيلك على الله الذي لا إله إلا هو، ثم تركته ومشيت.

فالشاهد في الموضوع أن من شب على شيء شاب عليه، فلا تضيع شبابك وحياتك على أمل أنك إذا صرت كبيراً تتوب، لا؛ فالذي لا خير فيه في شبته، لن يكون فيه خير في شيخوخته.

<<  <  ج: ص:  >  >>