[ثلاثة يبغضهم الله: منهم التاجر الحلاف]
قال أبو ذر رضي الله عنه -والحديث مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم أخرجه الإمام أحمد والنسائي -: (ثلاثة يحبهم الله: رجل كان في فئة -أي في معركة وفي ناحية وفي ثغر من ثغور المسلمين- فنصب نحره دونهم حتى قتل، ورجل كان له جار سوء يؤذيه فصبر على أذاه، حتى فرق الله بينهما بالموت أو بالظعن -إما أنه رحل أو مات، فهذا يحبه الله- ورجل كان معه قوم في سفر أو في سرية، فأطال السرى -في الليل- حتى أعيوا -أي تعبوا- ثم أعجبهم مكانٌ فأمسوا فيه، فخشي هو أن تفوتهم صلاة الفجر فتنحى عنهم وقام يصلي في الليل حتى أيقظهم لصلاة الفجر) فهذا رجل عظيم جداً، هذا يحبه الله تبارك وتعالى؛ لأنه حرص على نفسه وعلى إخوانه في هذه الليلة.
(وثلاثة يكرههم الله ويبغضهم ويشنؤهم -الأول- التاجر الحلاف) هذا التاجر الحلاّف يكرهه الله ويبغضه ولو كان صادقاً، فإنه إذا حلف مرة وصدق فيها، فإنه يحلف تسعة وتسعين مرة ويكذب فيها، فلا تحلف على سلعة لا صدقاً ولا كذباً، فإذا قال لك شخص: بكم هذا؟ قل: بكذا.
فإذا قال لك: والله؟! فقل: لماذا تحلفني يا أخي، أنا ما أخذتك غصباً، أنا أخذتك بأنفك من السوق، فإذا شئت فاشتر وإلا فاترك، لا تحلف لي ولا أحلف لك، هذا هو سعري.
وبعد ذلك الذي يفرض على الناس أن يأتوك ليس هي الدعاية ولا اليمين، بل تقواك لله أولاً، ثانياً: تعاونك معهم في سعر السلعة، فإذا جعلت مثلاً سعراً للسلعة بثلاثين ريالاً وأنت تعرف أنها في السوق كله بخمسة وثلاثين، ثق تماماً أن الناس سوف يشترون منك، لأن الناس يريدون الرخيص مهما كان.
لكن كونك تحلف بالله وتقول: والله إنها بأربعين ريالاً، والله إنها بأربعين ريالاً من بطن جدة، وأنه ليس معنا إلا التعب أخذناها من هناك وجئنا به إلى هنا هل سيصدقك؟ لا.
لأنه سيقول: لماذا إذاً تبيع وتشتري؟! أين أجرتك؟! وأين إيجار الدكان؟! وأين إيجار الصبي؟! وأين المكسب؟! وأين مصاريف البيت؟! هي في الحقيقة بعشرين وذاك باعها بثلاثين فربح عشرة، لكن بيمينك ربحت عشرين ريالاً، لكنك أنفقت سعلة ومحقت بركة، فتأخذ أربعين وتخرج من ظهرك أربعمائة في أمر آخر، لماذا؟ لأنك حلفت بالله فاجراً.
هذه الأولى: (ثلاثة يبغضهم الله: التاجر الحلاف، والفقير المختال) أي: هو فقير ويتكبر، ليس لديه شيء وهو متعالٍ، سبحان الله! يا أخي تواضع؛ لأن الكبرياء ليست طيبة لا للغني ولا للفقير، ولكنها في حق الفقير أعظم جرماً، بعض الناس اليوم لا يوجد لديه ما يتعشى به، لكنه يلبس أحسن لباس، ويركب أحسن (موديل) بالدين، ويفرش البيت بالدين، ويفعل كل شيء بالدين، وبعد ذلك يصبح مسكيناً مهموماً، هذا فقير مختال متكبر، وإذا جاء شخص وأعطاه من رزق الله بدون شيء، قال: لا.
أنحن فقراء؟! وهو رزق يسوقه الله إليه فيرده، وهذا من الكبرياء، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من ساق الله له رزقاً فليقبله) إذا ساقه الله لك من غير إشراف نفس ولا سؤال، يعني: أنك لم تسأل الناس ولا استشرفت نفسك هذا المال، وإنما الله عز وجل قذف في القلوب رحمة بك، فجعلها تعطف عليك وأعطاك فلا تتكبر، فتقول: لا.
لا نأخذها، فإذا تكبرت يصرف الله الرزق عنك، ولا تجد بعد ذلك من يرحمك، وإنما إذا ساق الله لك رزقاً فقل: جزاك الله خيراً، وادعُ له وتواضع، ومد رجليك على قدر فراشك، فإذا كان فراشك قصيراً فلا تمد رجليك حتى تضع رجليك في البرد، بل مدها وتكفف على قدرها، فافرش بيتك بمقدار راتبك، وغير سيارتك بمقدار دخلك، أما أن تأخذ بالدين، لكي يقال: كُلْ ما يعجبك والْبَسْ ما يعجب الناس! حسناً أجبت الناس في هذا الكلام، لكن من الذي سيقضي عنك الدين؟ من الذي سيكفيك قضاء الدين؟ فالناس سيقولون: ما هذه السيارة، الله أكبر! ويقولون: ما هذا البيت! لكن هل تنفعك هذه الكلمات في قضاء الدين؟ هل تستطيع أن تجمع كل هذه الكلمات في ورقة ثم تذهب بها لصاحب السيارات وتقول له: والله يا أخي اشتريت منك سيارة بستين ألفاً والناس أثنوا علي وقالوا والله هذه سيارة جميلة، فأريد منك أن تخصم لي عشرة آلاف، هل يقبل بذلك؟ لا.
سيقول: هات المال، أثنوا عليك أو ذموك.
فلا ينفعك يا أخي! ولا يكون في السوق إلا الصدق، أما الكذب والدجل والمفاخرة والمكابرة، هذه ليست للمسلمين، فالفقير المختال يكرهه الله.
والمنفوخ ليس له وزن ولا حقيقة، ولذلك فإنه يتلاشى بأقل دقة إبرة، وكذلك المتكبر الذي ليس لديه شيء.
والثالث: قال: (والمنّان) ، نعوذ بالله من المنّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} [البقرة:٢٦٤] فلا تمنّ على أحد، وإذا عملت جميلاً في إنسان يوماً من الأيام فانسه، فلا تقل له كلما لقيته: هل تذكر يوم أن ذهبت معك إلى المدير ويوم أن أوجدت لك وظيفة! ويوم أن أعطيتك مالاً! أو صدقة أو ديناً؟!! أو تقول له: كيف السيارة التي أعطيناك ثمنها إن شاء الله تكون جيدة نعم.
لا تنسَ أني أنا الذي أقرضتك ذاك اليوم؟! اعلم أن المنّ يكسر خاطر المسلم، ويجعله ضعيفاً وفي موطن احتقار، فلا تفسد قلب أخيك المسلم، ولا تكسره بهذا، فإن المنّ يبطل أجر الصدقة أو القرض.
يقولون: كان هناك رجل يعيش في البادية، ورجل آخر يعيش في المدينة -في الحاضرة- فقام الحضري وذهب وزار البدوي في قريته، فذبح له البدوي تيساً سميناً جميلاً فحنذه وطبخه، فأكل الحضري فلما انتهى وسر منه رجع إلى مدينته، وبعد يومين أو ثلاثة جاء البدوي، بحكم المدينة فإن البدوي يأتيها كل يوم، ولكنّ الحضري لا يذهب إلى القرية إلا مرة في السنة، أو في السنين كلها، فأهل البادية يترددون على المدن والقرى والحواضر يومياً؛ لأن مصالحهم ومراجعاتهم وبيعهم وشراءهم هناك، فنزل هذا البدوي عند صاحبه الحضري، فقام الحضري وذبح له خروفاً وليس تيساً، يقول: أكرمنا نكرمه، فلما شبعوا وانتهوا، قال البدوي: يا فلان قال: نعم.
قال: تذكر ذاك التيس والله ما ذقت أفضل منه ولا أطرى من لحمه! وأنا وحدي وذبحت لي خروفاً بتيس، وقال: جزاك الله خيراً، فتغدى وذهب.
وبعد أسبوع جاء فذبح له الحضري خروفاً، فلما انتهى قال: أبداً أبداً أنا ما قد ذقت مثل ذاك التيس أبداً، كم قد أكلت من الخرفان والتيوس ولكن ذاك التيس له طعم خاص، فقال الحضري: (الله يقلعك ويقلع تيسك) هذا الذي لم يكفه خروفان.
فجاء للمرة الثالثة فذبح له خروفاً ثالثاً، فلما انتهى قال: أما أنا فمن يوم أن خلقت لم أذق مثل ذاك التيس إلا مرة واحدة، فقال الحضري: والله ما تجاوزت هذا الباب بعد هذا، ثلاثة خرفان لم تعدل تيسك! أي نعم.
فلا ينبغي للمسلم أن يكون منّاناً على أخيه المسلم، بأي جميل يعمله.