فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:(اقرأ في كل شهر مرة، قال: دعني أغتنم قوتي وشبابي يا رسول الله! قال: اقرأه في عشرين، قال: دعني أغتنم شبابي يا رسول الله، قال: اقرأه في عشر، قال: يا رسول الله! إنني أطيق أكثر، قال: اقرأه في ثلاث) فهذا أقل شيء، لم يعد يمكن أقل من هذا.
لأن من قرأ القرآن وختمه في أقل من ثلاث لم يفقهه.
فقال رضي الله عنه:[ولما شبت وكبر سني ودق عظمي؛ قلت: ليتني قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم] لأنه في هذه الحالة ألزم نفسه، والرجل صادق لا يعرف الكذب، فمادام أنه استعد أمام الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ما كان له أن ينقض عهده الذي أبرمه مع الرسول يوم أن ذهب صلى الله عليه وسلم، بل بقي عليه حتى مات، ولكن حصلت له بعد كبر سنه مشقة في ممارسة مثل هذا من كثرة الصيام والقيام، فقال:[ليتني قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصوم] ولقد خفف عنه عليه الصلاة والسلام النافلة حتى قال له: (صم يوماً وأفطر يوما، قال: أكثر من ذلك، قال: لا أفضل من ذلك، هذا صيام داوُد كان يصوم يوماً ويفطر يوماً) وهكذا يقول الشارح لهذا الحديث: كل من ألزم نفسه في تعبدٍ أو أورادٍ أو قيامٍ بأكثر من هدي الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه سيندم فيما بعد؛ لأن قيام جزء من الليل ولو كان يسيراً؛ حتى ولو ركعتين مع المحافظة على الرواتب التي هي اثنا عشرة ركعة: أربع قبل الظهر، واثنتان بعده، واثنتان بعد المغرب، واثنتان بعد العشاء، واثنتان قبل الفجر، والمحافظة على النوافل كالضحى، وتحية المسجد، مع الأذكار طرفي النهار -أي: في أول النهار، وأول الليل- مع الاشتغال بطلب العلم ومتابعة حلق العلماء، وقراءة كتب العلم في البيت، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا رأى الإنسان معروفاً يأمر به، وإذا رأى منكراً نهى عنه، وتعليم الجاهل، وزجر الناس عن الفساد، وقبل ذلك أداء الفرائض في جماعة المسلمين مع الخشوع والطمأنينة وحضور القلب وانكساره، والصدقة من المال بما تيسر، والتواضع للمسلمين، والإخلاص لله في جميع ذلك بشكلٍ منتظم، يعتبر مقاماً عظيماً ومنزلاً جسيماً، وهو مقام أولياء الرحمن.
هذا المقام إذا أصبحت فيه، فليس أفضل منك، لكن من عدم الاعتدال أن تزيد في شيء ثم تندم عليه بعد ذلك، وكان عبد الله بن عمرو رضي الله عنه كثير القيام والبكاء، وقد بكى رضي الله عنه وأرضاه حتى فسدت عيناه.
فلقد كانوا يبكون رضي الله عنهم بكاءً حاراً، بكاء يُنزل الدمع مثل الجمر من حرارة الإيمان في قلوبهم، فكان بكاؤه كثيراً حتى أفسد عينيه، وقد زوجه أبوه رضي الله عنهما بزوجة من فتيات قريش من أجمل النساء، ومكثت فترةً عنده ما كشف لها ثوباً، كلما دخل عليها وقف في بيته واستقبل قبلته وقام طوال الليل حتى يصلي الفجر، فلا يعرف إلا الله والصلاة.
لقد كان عبد الله بن عمرو شاباً فريداً عابداً زاهداً من خيرة عباد الله، فلما زاره أبوه عمرو بن العاص -وهو مشتغلٌ عنها بالعبادة- قال لها: كيف بعلك؟ يعني: كيف أخلاقه؟ وهل هو حسن أم لا؟ قالت: والله إنه خير رجل، فلم يقرب لي فراشاً منذ أتيته، أي: منذ أتيت إليه، والله ما يمس لي فراشاً، قالت: فأقبل عليه يعاتبه، فعاتبه أبوه، ثم شكاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي:(أتصوم النهار وتقوم الليل؟ قال: نعم.
قال: صم ثلاثة أيام من كل شهر الحديث) وفي حديث آخر يقول الرسول صلى الله عليه وسلم للثلاثة الذين سألوا عن عبادته فقال أحدهم: أقوم ولا أنام، وقال الآخر: أصوم ولا أفطر، وقال الثالث: لا أتزوج النساء، فقال صلى الله عليه وسلم:(أما أنا فأصوم وأفطر وأصلي وأنام وأتزوج النساء، هذه سنتي فمن رغب عن سنتي فليس مني) لأن أكمل الهدي هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.