للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الكذب يتنافى مع الإيمان]

الكذب من أقبح القبائح ومن أعظم المعائب، ومن أسوأ الأخلاق، والنفوس الأبية في الإسلام وفي الجاهلية ترفضه وتأباه، ليس هناك أحد يحب الكذب خلقاً، وجاء الدين الإسلامي ليؤصل ويقعِّد ويبني ويؤسس هذا الدين على الصدق، ولذا فالذي يكذب ليس بمؤمن حقيقةً، قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم -والحديث في موطأ الإمام مالك - (أيكون الرجل جباناً، قال: نعم) يعني: قد يجبن في لحظة من اللحظات، وإلا فالخلق الأصيل عند المؤمن الشجاعة في الحق وفي سبيل الله، لكن قد يحصل له في يوم من الأيام أن يكون جباناً (قالوا: أيكون المؤمن بخيلاً؟ قال: نعم) يعني: قد يحصل وإلا فصفته الأساسية اللازمة له هي الكرم، ولكن قد ينتابه شيء من البخل في لحظة من اللحظات، وفي ساعة من ساعات الضعف البشري بحكم نقص الإنسان (قالوا: أيكون المؤمن كذاباً، قال: لا.

إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله) فالذي يفتري الكذب لا يؤمن بالله، وأصل النفاق مبني على الكذب.

فالمنافقون الذين أظهروا خلاف ما أبطنوا كذبوا ليسوا بواضحين، بل متلونين، يلبسون لكل زمن ما يناسبه، فهم لبسوا لزمن الإسلام، الذي هو زمن التوحيد وقوة الدين، لبسوا له اللباس من الظاهر فأظهروا الدين، ليحقنوا دماءهم ويحموا أموالهم، ويصونوا أعراضهم، ولكنهم في حقيقتهم الداخلية كفار، ولهذا سمّاهم الله كاذبين، وقال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة:٨-١٠] .

فهم كذبوا على الله، وتلونوا بلون ليس بلونهم الطبيعي، فلونهم الداخلي الأصيل هو: الكفر، ولكنهم أظهروا لوناً آخر من أجل أن يخدعوا الناس، فخدعهم الله وكذبهم، ونفى عنهم الإيمان فقال: {وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة:٨] فمثلهم كمثل الحرباء، وتعرفون الحرباء، نسميها عندنا باللسان العامي (الفاشة) ، هذه (الفاشة) : دويبة تأتي في الأرض طولها تقريباً شبر، وهذه تستطيع أن تتلون بلون المكان التي هي فيه، فإذا وجدتها في شجرة والشجرة خضراء تجدها خضراء، فإذا أخذتها بعود أو بيدك ووضعتها في الطين تخرج غبراء مثل الطين، وإذا أخذتها ووضعتها في حجرة سوداء تخرج سوداء مثل الغرفة، وإذا رميتها في طين أصفر تخرج صفراء مثل الطين، فهي تأخذ لون المكان التي هي فيه، لماذا؟ من أجل أن تخدع الإنسان حتى لا يراها.

ولهذا ذكر الله تبارك وتعالى في القرآن الكريم أن هذا المنافق وأمثاله من أهل النار، فقال: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلاَّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنْ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ} [المدثر:٣٨-٤٥] يعني: لم يكن لنا اتجاه، ولم يكن لنا مبدأ، ولم يكن لنا دين، وإنما إن جلسنا مع الطيبين ظهرنا طيبين، وإن جلسنا مع العصاة والفجرة أصبحنا عصاة وفجرة، وإن جلسنا مع المغنين أصبحنا مغنين، المهم أنهم يلبسون لكل جوٍ ما يناسبه، وهذا هو الكذب وهذا هو الخداع، وهذا هو الغرور.

يقول الله عز وجل: {ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران:٦١] ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان أسوأ شيء عنده، كما قالت عائشة رضي الله عنها: [ما كان شيء أسوأ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن يعلم عن أصحابه أو عن أحد من أصحابه كذباً، وكان لا يرضى حتى يعلم أنه أحدث توبة] فإذا وقع من رجل كذبة نبذه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يرضى عنه إلا أن يعلم أنه أحدث لله توبة، يعني نقلة من حياة الكذب والدجل إلى حياة الوضوح والصدق؛ لأن هذا هو خلق المؤمن.

<<  <  ج: ص:  >  >>