[علل تحريم الربا]
لماذا حرم الله الربا؟ هذا السؤال يتردد على ألسنة وعقول عباد المادة، الذين جاءتهم نقود يريدون أن يستثمروها بأي وسيلة، يمصون دماء البشر، ولا يعانون من معاناة الآخرين، ولا يهمهم فقر الفقراء، أو موت الجائعين، إنما يهمه ما دام عنده فلوس لماذا لا يشتغل فيها بالربا؟ ولماذا حرم الله الربا؟ علل الربا ذكرها العلماء، فقالوا: إنها أربع: العلة الأولى: محض التعبد.
إذ لا يسأل ربنا عما يفعل وهم يسألون، ومقتضى العبودية: أن ترضخ وتستسلم لأمر خالقك ومولاك من غير أن تسأل، أنت عبد مأمور، وإذا أمرك الله بأمر أو نهاك عن نهي لزمك بمقتضى عبوديتك أن تقول: سمعنا وأطعنا، الله حرم؟ حرم، لماذا؟ ليس لك دخل في هذا.
لكن من فضل الله ورحمته أحياناً يبرر الأمر، أو يعلل للنهي ويبين الحكمة، فضلاً منه ورحمة، وإلا فلا حجة لنا في أن نطلب من الله؛ لأننا نصير عبيد منفعة، وإذا أمرنا الله ورأينا الحجة وكانت الحجة والعلة مقنعة وكافية ومبررة قبلنا أو رفضنا، فنحن إذاً لا نعبد الله، بل نعبد أهواءنا وعقولنا، يقول تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} [الأحزاب:٣٦] .
إن بيّن الله لك الحكمة كان فضلاً منه ونعمة، وإن لم يبين كان موقفك أن تستجيب لأمر الله، وأن ترضخ وتستسلم وأن تقول: سمعنا وأطعنا، فالعلة في الدرجة الأولى في كل العبادات والمنهيات محض التعبد أي: أن الله تعبدنا ابتلاءً واختباراً.
العلة الثانية: أنه لو أحل الربا لبطلت المكاسب ولتعطلت التجارات، إذ من يحصل على درهمين بدرهم، كيف يتجشم مشقة كسب التجارة وحمل البضاعة وتسويقها وعرضها وليس هناك حاجة أو إمكانية.
إن شخصاً يتاجر قد يقول: ما دام أنا عندي فلوس وأنا أعطي الناس ريالاً بريالين، أو ريالاً بعشرة، أو عشرة بأحد عشر، فلا داعي أن أذهب وأشتري أشياء ولا أشتري لي دكاناً ما دام الفلوس نفسها أتاجر فيها.
وببطلان التجارة وبتعطيل المكاسب البشرية تنقطع مصالح الناس وتنعدم الحياة الاجتماعية، إذ أن مصالح العالم لا تنتظم إلا بالتجارة وبالمبادلة والمعاوضة وبالحرف والصناعة، فالله أعلم بشرعه وما يصلح عباده، فهو حرم عليهم هذا ليتبادلوا المصالح، وليبدأ هذا بالشراء، أنا أعمل دكاناً في المأكولات، والثاني يعمل دكاناً في الملابس، والثالث يعمل دكاناً في الفواكه، لماذا؟ من أجل أن ننمي هذا المال، لكن إذا كان الربا مباحاً فأنا أعمل دكان صرافة، وهذا صرافة، وهذا صرافة، وبالتالي من يجلب المئونة للناس؟ من يعمل معوضات في التجارة؟ تصبح المعوضات فقط في الريال، ولا يصبح معوضات في بقية الأشياء، وتنقطع الحرف وتتعطل الصناعات والمهن وبالتالي ينقلب نظام العالم كله رأساً على عقب، هذه العلة الثانية.
العلة الثالثة: أن الربا يؤدي إلى انقطاع الفضل والمعروف والإحسان والقرض الحسن، الله تبارك وتعالى شرع القرض، وبين ثوابه، والحديث في السنن وفيه مقال: (أنه مكتوب على باب الجنة: الحسنة بعشرة أمثالها، والقرضة بثمانية عشر مثلاً فلما سأل صلى الله عليه وسلم جبريل: ما بال القرض أعظم أجراً من الصدقة والقرض يعود والصدقة لا تعود؟ قال: إن المستقرض يستقرض من حاجة، والسائل ربما يسأل من غير حاجة) .
فعلاً الشحاذ والسائل أصبحت وسيلة عنده صناعة أو وظيفة، تجده يشحذ وجيبه ممتلئ بالنقود وعنده رصيد في البنك، لكن المستقرض لا يأتيك يستقرض إلا وليس معه ريال واحد، فكان أجرها أعظم؛ لأثرها على المستقرض، فلو أبيح الربا لتعطل هذا الجانب، وسوف ينعدم مبدأ المعروف، ولأصبح لما يأتي واحد تقول: بالله أنا عندي أزمة وأريد منك ألف ريال، قال: كم تعطي عليه بعد ذلك: ألف ومائة، أو ألف ومائتين، أو ألف وثلاثمائة؟ هل في هذا معروف؟ لا.
فيه زيادة والزيادة محرمة، ولكن الله حرمها ليبقى الإحسان، تأتي تريد ألفاً أعطني ألف ريال، هذا ألف ريال لكن متى ترده؟ وهذا مبدأ ينبغي أن نأخذ به حينما نقرض الناس؛ لأن كثيراً من الناس يستقرضون ويتسبب هذا القرض في قطيعة بين المستقرض والمقرض، يأخذ حقه وبعد ذلك لا يسدده، ثم بعد ذلك يتمنى أنه ما أقرضه؛ لأنه أقرضه من أجل تزيد الصلة بينه وبين زميله، فأصبح القرض سبباً للقطيعة بينه وبين زميله، إذ أنه لم يسدده في الوقت المعين، وربما أنكره المال؛ لأنه ما كتب عليه كتاباً، وربما أعطاه بعد تعب إذا طلبه، وبعض المستقرضين إذا جاء صاحب القرض يقول: أعطني حقي يا أخي؟ قال: أنت فضحتنا، أعطيتنا ألف ريال وكل يوم وأنت تطلبني.
يا أخي! أريد حقي، كيف فضحتك؟ أنت الذي جئت تأخذ مني حقي، فأحسنت إليك، لو أنني أقفلت الباب ذاك اليوم عليك وقلت: ما عندي شيء، أو ابحث لك عن غيري، أو عندي لكن لن أعطيك؛ لأني راصد هذا المبلغ لمشروع أو لمهمة أريد أصرفه فيها، كان قلت: شكراً في أمان الله، ما أخذته بصميل ولا بعصا، لكن لما فتحت بابي وفتحت جيبي وأقرضتك حقي تتخذني عدواً، فلا بد من الأمرين: أولاً: الكتابة، تأخذ منه سنداً؛ لأنه سوف ينسى وتنسى، ولا يذكركم إلا الكتابة.
ثانياً: أن تحدد أجلاً، إذا قال: أريد ألف ريال.
تقول: إلى متى؟ إذا قال: قريب.
قل: لا أريد قريباً، ماذا قريب؟ قال: شهراً أو شهرين، لكن شهرين صدق.
وأذكر مرة كنت في العمل، وجاءني أحد الإخوة فقال لي: أريد منك خمسة آلاف ريال؟ قلت: متى تردها؟ قال: أصلي معك صلاة العصر وأعطيك إياها في نفس اليوم وهو صادق، وأنا أذكر أننا نخرج من العمل الساعة الثالثة ونصل بيوتنا ونصلي العصر، والرجل بيته في الحجاز، ومتى يذهب ويأخذ ويعود، فعرفت أنه لا يأتي بها في العصر، فقلت: لا.
ردها في صلاة المغرب، قال: لماذا؟ قلت: المغرب صدق أما العصر كذب.
أي: لو صبرت عليك للمغرب وتأتي بها أحسن من عصر وترد لي الفلوس، قال: حسناً، والرجل جزاه الله خيراً من أجل الكلمة هذه وقعت في قلبه استأذن في الساعة الثانية، وذهب إلى البيت، ولما دخلت المسجد أصلي العصر وإذا به جالس في الروضة، ماذا فيك؟ خذ، قال: هذا عصر سداد ليس عصر كذاب، فالشاهد في الموضوع: أن المستقرض ينبغي أن يحدد الأجل ويكتبه في الورقة، وبعد ذلك لا تحزن إذا جاءك صاحب الحق يطلب حقه، قل: بارك الله فيك وجزاك الله خيراً (رحم الله امرءاً سمحاً إذا باع، سمحاً إذا اشترى، سمحاً إذا قضى، سمحاً إذا اقتضى) .
إذا جئت تطلب فاطلب بالمعروف، وإذا أعطيت تعطي بالمعروف، وكن سمحاً في جميع أمورك.
فمن أسباب وعلل تحريم الربا: أن الربا يفضي بالنهاية إلى قطع مبدأ الإحسان والإقراض بين الناس.
العلة الرابعة: وهو أن الغالب أن المقرضين هم الأغنياء، وأن المستقرضين هم الفقراء، ولو مُكن الأغنياء من الزيادة في القرض على الفقراء لأفضى هذا إلى الضرر وأُلحق زيادة التراكم في الديون على هذا المسكين، فهو ما جاءك يطلب إلا لأنه محتاج، فعندما تعطيه ألفاً ويرده بألف ومائة، معناه سديت حاجة لكن سببت مشكلة في أنك زدت في مسألة المال والرصيد والتراكم عليه، ولكن لو أعطيت المبلغ ألفاً بألف، سديت حاجة ولم تعمل له مشكلة.
هذه هي مجمل العلل التي ذكرها العلماء في علة تحريم الربا.