للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فأما الأعضاء الباطنة، كالمرارة، والكلية والكبد، وآحاد العروق، والأعصاب وما فيها من التجاويف والرقة والغلظة، فلا يعرف الحكمة فيها كل الناس، والذين يعرفونها إنما يعرفون منها قدراً يسيراً بالنسبة إلي علم الله تعالى، فكل من استعمل شيئاً في جهة غير الجهة التي خلق لها ذلك الشيء على غير الوجه الذي أريد به، فقد كفر نعمة الله تعالى فيه، فمن ضرب غيره بيده بغير حق، فقد كفر نعمة الله تعالى في اليد لأنها خلقت ليدفع بها عن نفسه ما يؤذيه، ويتناول ما ينفعه، لا ليؤذى بها غيره، وكذلك العين إذا نظر بها إلى محرم، فقد كفر نعمتها، ونعمة الشمس أيضاً، إذا الإبصار يتم بها، فالعين والشمس خلقتا ليبصر بهما ما ينفعه في دينه ودنياه، ويبقى بهما ما يضره فيهما.

واعلم: أن المراد من خلق الخلق وخلق الدنيا وأسبابها، أن يستعين بها الخلق على الوصول إلى الله تعالى، ولا أنس إلا بدوام الذكر، ولا محبة إلا بالمعرفة الحاصلة بدوام الفكر، ولا يمكن الدوام على الذكر والفكر إلا بدوام البدن، ولا يبقى البدن إلا بالأرض والماء والهواء، ولا يتم ذلك إلا بخلق السماء والأرض وخلق جميع الأعضاء الباطنة والظاهرة، وكل ذلك لأجل البدن، والبدن مطية النفس، والراجع إلى الله هي النفس المطمئنة بطول العبادة والمعرفة، ولذلك قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: ٥٦] فكل من استعمل شيئاً في غير طاعة الله، فقد كفر نعمة الله في جميع الأسباب التي لا بد منها، لإقدامه على تلك المعصية.

ولنذكر مثالاً واحداً للحكم الخفية التي ليست في غاية الخفاء، حتى يعتبر بها، ويعلم طريق الشكر والكفران على النعم، فيقول: من نعم الله تعالى خلق الدراهم والدنانير اللذين بهما قوام الدنيا، وهما حجران لا منفعة في أعينهما، ولكن يضطر الخلق إليهما، من حيث كل إنسان يحتاج إلى أعيان كثيرة، في مطعمه، ومشربه، وملبسه، ومركبه، وسائر حاجاته، وقد يعجز عما يحتاج إليه، ويملك ما يستغني عنه، كمن يملك قدراً من الزعفران مثلاً وهو يحتاج إلى جمل يركبه، وآخر يملك الجمل، وربما استغنى عنه، ويحتاج إلى الزعفران، فلا بد بينهما من معاوضة، ولابد في مقدار العوض من تقدير، إذا لا يبذل صاحب الجمل جمله بكل مقدار من الزعفران، ولا مناسبة بين الزعفران والجمل، حتى يعطى مثله في الوزن والصورة.

<<  <   >  >>