بِمَعنى النَّفي، كقولِهِم قَلَّ رَجُلٌ يقولُ ذَاكَ إلّا زَيدًا، أَي مَا رَجُلٌ. قالَ بعضُ الخُوارزميّينَ: الأظهرُ عِندي ما ذَهَبَ إليهِ الأخفشُ من كونِها اسمًا لِعَدَم لازِمِ حرفِ الجَرّ عِندَه وهو التَّعدِيةُ، ولكونِهِ في مقابلةِ كَم فليُتَأَمَّل. واعلمَ أَنيّ قد أَجبتُ عن هذا. وقيلَ: إنَّ رُبَّ ومَجرُورَها في موضِع رَفْعٍ، والفِعلُ بَعدَها كالمُفَسِرِّ. واعلم أنَّ أصلَ رُبَّ للتَّقليل على ما ذَكَر ثُمَّ يعرِضُ لَها المجازُ للمُبالَغَةِ وغيرِها فتُحملُ على "كَمْ" في التَّكثير، وتُحمل عليها "كَمْ" أيضًا في التَّقليلِ، وذَلِك لا يُخرِجُها عن حَقِيقَةِ أصل وَضعِها حتَّى تُجعَلَ للتَّقلِيلِ والتَّكثير معًا، لأنَّ المَجَازَ عارِضٌ، وهذا كما أنَّ الذَّمَّ قد يُستَعمَلُ في موضعِ المَدحِ كقولِهِم: ما أشعَرهُ -أخزاهُ اللهَ- وقد يُقالُ للأَحمق يا عاقِلُ، على سَبيلِ الهُزءِ، ولا يخرِجُهُ ذلِكَ عن الحَقيقةِ وهكذا كُلُّ مُتَناقِضَينِ استُعمِلَ أحدُهُما مكانَ الآخَرِ فلا مَحالَةَ يكونُ في أحَدهِما مجازٌ كالتَّأنيث الّذي يُستعمل في مَوضعِ التَّذكِيرِ كقولِهِم للرَّجُلِ علّامَةٌ، وامرأةٌ عاقِرٌ. وجهةُ المَجازِ فيه أنَّ النَّقيضَينِ لَمَّا لم يَكُن بَينَهُما واسِطةٌ فإذا اشتَدَّ أحدُهما انعَكَسَ الآخَرُ إلى نَقِيضِهِ إذ لا واسِطَةَ بَينَهُما كَقولِ المُتَنَبِيّ:
وَلَجُدتَ حتّى كِدتَ تَبْخَلُ
ويقالُ: مَلُحَ حَتَّى قَبُحَ، والمواضِعُ الَّتي تُستَعمَلُ فيها رُبَّ للتَّكثيرِ تَجَوُّزًا واتّساعًا هي مواضِعُ الافتِخارِ والمُباهاة كقولِ امرئِ القَيسِ:
إذ لا يَليقُ هُنا إلَّا التَّكثيرُ، ويَصلُحُ ها هنا "كَم" مكانَ "رُبَّ" وَوَجهُ استعمالِ "رُبَّ" للتَّكثير في مَوضِعِ الافتِخَارِ أنَّ المُفتَخِرَ يَزعُمُ أنَّ الشَّيءَ الّذي يَكثُرُ وجودُهُ يَقِلُّ وُجُودُه من غَيرِه وذلِكَ أبلغُ في الامتداحِ من أنْ يَكثُرَ من غَيرِهِ فاستُعمِلَ لفظُ التَّقلِيلِ في موضِع التَّكثِيرِ لِهَذا المَعنى، كَما أنَّ استعمال الذَّمِ في موضِعِ المَدحِ يُشعِرُ أنَّ هذا قَد بَلَغَ إلى غَايَةٍ يُحسَدُ