للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

طَرَائِقُ الأَسَانِيدِ، وَوُجُوهُ الجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ، فَآثَرُوا الدِّعَةَ، وَاسْتَلَذُّوا الرَّاحَةَ، وَعَادُوا مَا جَهِلُوا، وَعَلَى المَطَامِعِ تَأَلَّفُوا، وَفِي المَآثِمِ وَالحُطَامِ تَنَافَسُوا، وَتَبَاهُوا فِي الطَّيَالِسِ وَالقَلانِسِ، وَلازَمُوا أَفْنِيَةَ المُلُوكِ، وَأَبْوَابَ السَّلاطِينِ، وَنَصَبُوا المَصَايِدَ لأَمْوَالِ الأَيْتَامِ، وَالإِغَارَةِ عَلَى الوقُوفِ وَالأَوْسَاخِ، وَاقْتَصَرُوا عَلَى ابْتِيَاعِ صُحُفٍ دَرَسُوهَا ... فَإِنْ حَفِظَ أَحَدُهُمْ فِي السُّنَنِ شَيْئًا، فَمِنْ صَحِيفَةٍ مُبْتَاعَةٍ، كَفَاهُ غَيْرُهُ مُؤْنَةَ جَمْعِهِ وَشَرْحِهِ وَتَبْوِيبِهِ، مِنْ غَيْرِ رِوَايَةٍ لَهَا وَلا دِرَايَةٍ بِوَزْنٍ مِنْ نَقْلِهَا فَإِنْ تَعَلَّقَ بِشَيْءٍ مِنْهَا يَسِيرُ، خَلَطَ الغَثَّ بِالسَّمِينِ، وَالسَّلِيمِ بِالجَرِيحِ، ثُمَّ فَخَّمَ مَا لَفَّقَ مِنَ المَسَائِلِ مَا شَاءَ، وَإِنَّهَا وَالسُّنَنَ المَأْثُورَةِ ضِدَّانِ، فَإِنْ قُلِبَ عَلَيْهِ إِسْنَادُ حَدِيثٍ تَحَيَّرَ فِيهِ تَحَيُّرَ المَفْتُونِ، وَصَارَ كَالحِمَارِ فِي الطَّاحُونِ، وَإِنْ شَاهِدَ المُذَاكَرَةَ سَمِعَ مَا لَيْسَ فِي وُسْعِهِ الجَرَيَانِ فِيهِ، فَلَجَأَ إِلَى الإِزْرَاءِ بِفُرْسَانِهِ» (١).

والواقع أن فئة ممن كانوا ينتسبون إلى الحديث كانوا يمثلون الثغرة التي أتى المحدثون مِنْ قِبَلِهَا، والتي أتاحت للمتكلمين ولأهل الرأي ولكل من عادى المحدثين، أَنْ يَتَسَوَّرُوا حِصْنَهُمْ، ويتمكنوا من طعنهم، هذه الفئة كان يغلب عليها التزمت، وضيق الأفق، وسطحية التفكير، مما كان يحملها على التسرع في الحكم، ويحول بينها وبين الفهم الصحيح. كان الشافعي - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - يتناشد مع بعض معاصريه شعر هُذيل، فأتى عليه الشافعي حفظًا، وقال لمن كان يتناشد معه: «لَا تُعْلِمْ بِهَذَا أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ الحَدِيثِ فَإِنَّهُمْ لَا يَحْتَمِلُونَ ذَلِكَ» (٢).

وقد جمع ابن الجوزي المآخذ التي أخذت على المحدثين والفقهاء في كتابه " نقد العلم والعلماء ". ويفهم من كلامه أنه يعني المحدثين والفقهاء في عصره، وقد نقدهم نقدًا شديدًا، فأما المحدثين فقد ذكر أن قومًا منهم «اسْتَغْرَقُوا أَعْمَارَهُمْ فِي


(١) " المحدث الفاصل ": ص ٥٥، ٥٦.
(٢) " الشافعي "، لأبي زهرة: ص ٢٦.

<<  <   >  >>