للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وكراهية تدوين الآراء الفقهية يستمد اعتباره من صنيع السلف، إذ يروى أن أقوامًا سألوا زيد بن ثابت عن أشياء، فلما أجابهم عنها كتبوها من غير علمه، ثم أخبروه فقال: «لَعَلَّ كُلَّ شَيْءٍ حَدَّثْتُكُمْ خَطَأٌ، إِنَّمَا اجْتَهَدْتُ لَكُمْ رَأْيِي».

قِيلَ لِجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، إِنَّهُمْ يَكْتُبُونَ مَا يَسْمَعُونَ مِنْكَ فَقَالَ: «إِنَّا لِلَهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، يَكْتُبُونَ رَأْيًا أَرْجِعُ عَنْهُ غَدًا».

جَاءَ رَجُلٌ إِلَى سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، [فَسَأَلَهُ] عَنْ شَيْءٍ، فَأَمْلَاهُ عَلَيْهِ فَسَأَلَهُ عَنْ رَأْيِهِ، فَأَجَابَهُ فَكَتَبَ الرَّجُلُ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ جُلَسَاءِ سَعِيدٍ: «أَيَكْتُبُ يَا أَبَا مُحَمَّدٍ رَأْيَكَ؟». فَقَالَ سَعِيدٌ لِلرَّجُلِ: «" نَاوِلْنِيهَا "، فَنَاوَلَهُ الصَّحِيفَةَ فَخَرَقَهَا (*)» (١).

[د] كَرَاهِيَةُ القِيَاسِ:

وإذا كان المحدثون يتوقفون فيما لا أثر فيه، لاتهامهم الرأي، فمن الطبيعي أن [يرغبوا] عن القياس، إذ هو أبرز سمات الرأي وأقوى دعاماته.

ولذلك لم يأل المحدثون جهدًا في أن يجمعوا الآثار الذامة للرأي والقياس، والمحذرة من استعماله.

وقد ذكر البخاري رأيه في القياس في عدة تراجم، فذكر منها: (بَابُ مَا يُذْكَرُ مِنْ ذَمِّ الرَّأْيِ وَتَكَلُّفِ القِيَاسِ، {وَلاَ تَقْفُ} - لاَ تَقُلْ - {مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: ٣٦] (٢)، ومنها: (بَابُ مَا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُسْأَلُ مِمَّا [لَمْ] يُنْزَلْ عَلَيْهِ الوَحْيُ، فَيَقُولُ: «لَا أَدْرِي»، أَوْ لَمْ يُجِبْ حَتَّى يُنْزَلَ


(١) انظر هذه الآثار في " جامع بيان العلم ": ٢/ ١٤٣، ١٤٥.
(٢) " البخاري بحاشية السندي ": ٤/ ٢٦٢.

[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ / البَاحِثُ: تَوْفِيقْ بْنُ مُحَمَّدٍ القُرَيْشِي]:
(*) في كتاب ابن عبد البر: «فَحَرَقَهَا»، وقال محقق الكتاب: (حاشية رقم ٤): كذا في الأصل. وفي ط: «فَمَزَّقَهَا». انظر " جامع بيان العلم وفضله "، لابن عبد البر، تحقيق أبي الأشبال الزهيري: ١/ ١٠٧٠، حديث رقم ٢٠٧٥، الطبعة الأولى: ١٤١٤ هـ - ١٩٩٤ م، نشر دار ابن الجوزي، المملكة العربية السعودية.

<<  <   >  >>