والذي نخلص إليه في عرضنا للقرن الأول الهجري أن فقهاء الحجاز وفقهاء العراق لم تكن الفجوة بينهما واسعة أو عميقة، وأنهما لذلك لم ينقسما - ولا كل منهما - إلى أهل حديث وأهل رأي، لكن الخلافات السياسية التي اجتاحت العالم الإسلامي آنذاك هي التي تظاهرت مع الفرق الدينية والمذاهب المتطرفة، على وصم العراق بالبدعة، ووصفه باتباع الرأي والهوى في مجال العقيدة، وألقى ذلك ظلالاً قائمة على فقه العراق، فسرت كراهية الرأي في العقيدة إلى الرأي في الفقه، ووقف منه كثير من العلماء موقف الحذر والاتهام.
فِي القَرْنِ الثَّانِي:
فإذا تركنا القرن الأول - هذا القرن الحيوي البناء، الذي شيدت فيه دولة الإسلام، وفقه الإسلام، وتكونت فيه المدارس الفقهية في كثير من الأمصار - إذا جاوزنا هذا القرن وعبرنا التاريخ إلى القرن الثاني، فسوف نشهد نهضة فقهية عظيمة، وحركة علمية نشيطة، أكل فيها البناء، وتميزت المدارس الفقهية، واتسعت قاعدتها من طلاب العلم، وأقبل الناس على الفقه يعرضون عليه عاداتهم ومعاملاتهم، ويستنبئونه عن الحكم في كل جديد يعرض لهم.
فماذا كان من أمر المدرستين في هذا القرن؟ وهل تميز فيه أهل الحديث من أهل الرأي؟
قد يمكن تلخيص معالم المدرستين في القرن الثاني فيما يلي:
أ - زادت حِدَّةُ التنافس الإقليمي، وأصبح الشعور بالانتماء للمشيخة والتعصب لها أكثر عُمْقًا وأشد اعتزازًا. وإذا كانت الطبقة القريبة الصلة بالصحابة من أعيان التابعين متسعة الإدراك في تفهم خلافات الصحابة، مرهفة الذوق في مسايرة روح التشريع، وهي مع ذلك معتزة بمشيختها