للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

مفضلة علمها على علم غيرها، كما سبق، إذا كان ذلك كذلك بالنسبة للتابعين، فليس مستغربًا ممن يجيء بعدهم من طبقات أن يكون أكثر اعتزازًا، وأشد استمساكًاً وَتَشَبُّثًا بشيوخهم، وبخاصة أنهم قد بعدوا عن مسرح الأحداث الإسلامية الأولى، وتلقوها من طريق معين، وتفهموها من وجهة نظر خاصة، هي طريق الشيخ ونظر الشيخ، والثقة والاعتزاز بالشيوخ تحمل على ترجيح رأيهم في موطن الخلاف، كما تحمل على تجسيم هذا الخلاف وإعطائه أهمية لم تكن له عند من سبقهم، وقد ينتج عن ذلك تنقص أقدار أو آراء المخالفين.

فَالزُّهْرِيُّ، مَثَلاً، كَانَ يُضَعِّفُ عِلْمَ أَهْلِ العِرَاقِ إِذَا ذُكِرُوا عِنْدَهُ، فلما قيل له إن بالكوفة من يروي أربعة آلاف حديث - يقصدون الأعمش - وجاءوه ببعض حديثه، قال بعد أن اطلع عليه: «وَاللَّهِ إِنَّ هَذَا لَعِلْمٌ، وَمَا كُنْتُ أَرَى أَنَّ بِالعِرَاقِ [وَاحِدًا] يَعْلَمُ هَذَا» (١).

وَكَانَ مَالِكٌ يَقُولُ عَنْ أَهْلِ العِرَاقِ فَقَالَ: «أَنْزِلُوهُمْ [عِنْدَكُمْ] بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ الكِتَابِ لَا تُصَدِّقُوهُمْ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ، وَقُولُوا {آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ} [العنكبوت: ٤٦]»، وقد حدث أن دخل عليه محمد بن الحسن وهو يقول هذه العبارة، فاستحيا مالك منه، واعتذر له بقوله: «كَذَلِكَ أَدْرَكْتُ أَصْحَابَنَا يَقُولُونَ» (٢).

أَمَّا حَمَّادُ بنُ أَبِي سُلَيْمَانَ العِرَاقِيُّ، فَقَدْ قَالَ عَنْ عَطَاءٍ وَعِكْرِمَةَ وَغَيْرِهِمَا مِنْ عُلَمَاءِ أَهْلِ الحِجَازِ فَقَالَ: «قَدْ سَأَلْتُهُمْ فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ شَيْءٌ، وَاللَّهِ لَصِبْيَانُكُمْ أَعْلَمُ مِنْهُمْ بَلْ صِبْيَانُ صِبْيَانِكُمْ»، قَالَ مُغِيرَةُ رَاوِي هَذِهِ العِبَارَةِ بِقَوْلِهِ: «هَذَا بَغْيٌ [مِنْهُ]». ثُمَّ يَقُولُ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ: «صَدَقَ مُغِيرَةُ، وَقَدْ كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ - وَهُوَ أَقْعُدُ النَّاسِ بِحَمَّادٍ - يُفَضِّلُ عَطَاءً عَلَيْهِ» (٣).


(١) " جامع بيان العلم ": ٣/ ٣٤.
(٢) " جامع بيان العلم ": ٢/ ١٥٧.
(٣) " جامع بيان العلم ": ٢/ ١٥٢.

<<  <   >  >>