أشرنا في الفصل السابق إلى الخصومة بين المحدثين وغيرهم من المتكلمين وأصحاب الرأي، وفي هذا الفصل بسط لما أوجز في سابقه، ومحاولة لتتبع الأسباب التي أفضت إلى هذه الخصومة، وتفصيل للمآخذ التي طعن بها المحدثون، ومدى صحتها، وبيان لموقف المحدثين منها، وكيف دفعوها عن أنفسهم.
وقد سبق أن ذكرنا أن المعتزلة أصحاب مدرسة عقلية تُمَجِّدُ العَقْلَ وتعتمد عليه وَتُغذِّيهِ بالفلسفات المختلفة، وتجول به بين الديانات والعقائد المتنوعة، مستعينة بنشاط العصر في الترجمة، مستعملة المنطق ومتأدبة بآداب الجدل والمناظرة وملتزمة قوانينا (١).
وبهذا كان التكوين الثقافي للمعتزلة غريباً عمَّا ألفه علماء الحديث والفقه، مما نتج عنه اختلاف في المنهج عند تناول قضايا العقيدة أو مسائل الفروع، وباعد هذا الاختلاف في المنهج بين الطرفين، وحال دون التقاء الاتجاهين،
(١) انظر " ضحى الإسلام ": ١/ ٣٥٧ وفيه أن رجلاً وصف واصل بن عطاء فقال: «لَيْسَ أَحَدٌ أَعْلَمَ بِكَلَامِ غَالِيَةِ الشِّيعَةِ وَمَارِقَةِ الخَوَارِجِ وَكَلَامِ الزَّنَادِقَةِ وَالدَّهْرِيَّةِ وَالمُرْجِئَةِ وَسَائِرِ المُخَالِفِينَ وَالرَّدِّ عَلَيْهِمْ مِنْهُ» وفيه أيضًا أن واصل بن عطاء نقض كتاب أرسططاليس وأنه تحدى جعفر البرمكي بقوله: «أَيَّهُمَا أَحَبُّ إِلَيْكَ: أَنْ أَقْرَأَهُ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ أَمْ مِنْ آخِرِهِ إِلَى أَوَّلِهِ؟».