وأن الخلاف بينهم وبين الأحناف إنما هو في المسائل الجزئية، هل السنة فيها معارضة أم مبينة.
وكذلك خبر الآحاد إذا خالف السنة المشهورة اعتبر ذلك انقطاعًا في المعنى، ولا يبعد أن يكون هذا الأصل أيضًا محل اتفاق، والخلاف إنما هو في التطبيق.
فقد ذكروا مثالاً لذلك ما جاء في بيع الرطب بالتمر، وهو ما روى أَنَّ زَيْدًا أَبَا عَيَّاشٍ، أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَأَلَ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنِ البَيْضَاءِ بِالسُّلْتِ، فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ: أَيُّهُمَا أَفْضَلُ؟، قَالَ: البَيْضَاءُ، فَنَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ، وَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسْأَلُ عَنْ شِرَاءِ التَّمْرِ بِالرُّطَبِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:«أَيَنْقُصُ الرُّطَبُ إِذَا يَبِسَ؟» قَالُوا: نَعَمْ، فَنَهَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ (١).
وقد رأى أبو حنيفة أن خبر سعد هذا مخالف للسنة المشهورة، وهو قوله - عَلَيْهِ السَّلاَمُ -: «التَّمْرُ بِالتَّمْرِ مِثْلاً بِمِثْلٍ»، فلم يأخذ به، وأخذ به أبو يوسف ومحمد، لأن السنة المشهورة لا تتناول الرطب، لأن مطلق اسم التمر لا تتناوله، بدليل أن من حلف لا يأكل تمرًا فأكل رطبًا لم يحنث، ولو حلف لا يأكل هذا الرطب فأكله بعد ما صار تمرًا لم يحنث، فإذا لم تتناوله السنة المشهورة، وجب إثبات الحكم فيه بالخبر الآخر.
وهذا هو الذي ذهب إليه أصحاب الحديث، فقد قال الترمذي بعد روايته لحديث سعد هذا:«... وَالعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ العِلْمِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِنَا».
(١) الترمذي: ٥/ ٢٣٢، ٢٣٣، وقال: «[هَذَا حَدِيثٌ] حَسَنٌ صَحِيحٌ»؛ وأبو داود: ٣/ ٣٤١، ٣٤٢. والبيضاء: نوع من البر أبيض اللون، وفيه رخاوة، أو هو الرطب من السلت. والسلت نوع أدق حَبًّا من البر.