التسوية بين الجامع وغيره، رَادًّا عليه بأن النص ورد في المجامع، ولم يأت في غيره نص. ثم لم ينس أن ينبه القياسيين على أن هناك فرقًا بين الفطر بالجماع والفطر بالأكل والشرب، وأن هذا الفرق يمنع إلحاق أحدهما بالآخر، وأن التغليظ بإيجاب الكفارة يناسب أحدهما دون الآخر. ولعله أخذ من الشافعي هذه الحجة التي تمنع قياس الفطر بغير الجماع على الفطر بالجماع.
وقد رأينا في هذا المثال نفسه، كيف أن إسحاق بن راهويه - وهو من أئمة الحديث، والذي بالغ في التمسك بالظاهر في بعض المواقف، حتى جعل ترك السواك وتخليل اللحية مبطلاً للصلاة - قد خالف أصحابه في هذه المسألة وذهب إلى مساواة المفطر المتعمد بالأكل والشرب، بالمفطر المتعمد بالجماع.
كما رأينا فيما تقدم من الأمثلة، كيف أن المحدثين يحملون معظم الأوامر والنواهي على الوجوب، وكيف حكموا بالبطلان على أفعال منهي عنها، لا يفرقون بين أن يكون النهي لذات الشيء، أو لصفة ملازمة له، أو لأمر خارج عن ماهيته مجاور له، لأن كل ذلك وقع على وجه لا يريده الشارع، وكل شيء ليس على وفق إرادة الشارع فهو مردود، كما حكم البخاري برد البيوع المتلقاة، وسندهم في ذلك، النهي الخاص بها، مع النص العام في ذلك، وهو قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كُلُّ عَمَلٍ لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا، فَهُوَ رَدٌّ»، أي مردود.
فموجب الأمر عند البخاري هو الوجوب، وموجب النهي عنده هو التحريم إلا إذا دل دليل على إخراج الأمر والنهي عن موجبهما، وقد استنتجنا هذا المذهب للبخاري من الأمثلة السابقة، ومن غيرها من الجزئيات العديدة التي عرض لها في " صحيحه "، بل نراه يصرح بهذا المذهب في الترجمة التي قال فيها: (بَابُ نَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى التَّحْرِيمِ إِلَّا مَا تُعْرَفُ إِبَاحَتُهُ، وَكَذَلِكَ أَمْرُهُ، نَحْوَ قَوْلِهِ حِينَ أَحَلُّوا: «أَصِيبُوا مِنَ