للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

غَاصَ بِهِ الفِكْرُ فِي مَنْحًى شَرْعِيٍّ مُطْلَقٍ عَامٍّ اطَّرَدَ لَهُ فِي جُمْلَةِ الشَّرِيعَةِ اطِّرَادًا لاَ يُتَوَهَّمُ مَعَهُ فِي الشَّرِيعَةِ نَقْصٌ وَلاَ تَقْصِيرٌ، بَلْ عَلَى مُقْتَضَى قَوْلِهِ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُم} [المائدة: ٣]. فَصَاحِبُ الرَّأْيِ يَقُولُ: الشَّرِيعَةُ كُلُّهَا تَرْجِعُ إِلَى حِفْظِ مَصَالِحِ العِبَادِ وَدَرْءِ مَفَاسِدِهِمْ، وَعَلَى ذَلِكَ دَلَّتْ أَدِلَّتُهَا عُمُومًا وَخُصُوصًا، دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الاِسْتِقْرَاءُ، فَكُلُّ فَرْدٍ جَاءَ مُخَالِفًا فَلَيْسَ بِمُعْتَبَرٍ شَرْعًا، إِذْ قَدْ شَهِدَ الاِسْتِقْرَاءُ بِمَا يُعْتَبَرُ مِمَّا لاَ يُعْتَبَرُ، لَكِنْ عَلَى وَجْهٍ كُلِّيٍّ عَامٍّ، فَهَذَا الخَاصُّ المُخَالِفُ يَجِبُ رَدُّهُ وَإِعْمَالُ مُقْتَضَى الكُلِّيِّ العَامِّ، لأَنَّ دَلِيلَهُ قَطْعِيٌّ، وَدَلِيلَ الخَاصِّ ظَنِّيٌّ فَلاَ يَتَعَارَضَانِ.

وَالظَّاهِرِيُّ يَقُولُ: الشَّرِيعَةُ إِنَّمَا جَاءَتْ لابْتِلاَءِ المُكَلَّفِينَ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً، وَمَصَالِحُهُمْ تَجْرِي عَلَى حَسَبِ مَا أَجْرَاهَا الشَّارِعُ، لَا عَلَى حَسَبِ أَنْظَارِهِمْ، فَنَحْنُ مِنَ اتِّبَاعِ مُقْتَضَى النُّصُوصِ عَلَى يَقِينٍ فِي الإِصَابَةِ، مِنْ حَيْثُ إِنَّ الشَّارِعَ إِنَّمَا تَعَبَّدَنَا بِذَلِكَ وَاتِّبَاعُ المَعَانِي رَأْيٌ، فَكُلُّ مَا خَالَفَ النُّصُوصَ مِنْهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، لأَنَّهُ أَمْرٌ خَاصٌّ مُخَالِفٌ لِعَامِّ الشَّرِيعَةِ، وَالخَاصُّ الظَّنِّيُّ لَا يُعَارِضُ العَامَّ القَطْعِيَّ.

فَأَصْحَابُ الرَّأْيِ جَرَّدُوا المَعَانِيَ، فَنَظَرُوا فِي الشَّرِيعَةِ بِهَا، وَاطَّرَحُوا خُصُوصِيَّاتِ الأَلْفَاظِ، وَالظَّاهِرِيَّةُ جَرَّدُوا مُقْتَضَيَاتِ الأَلْفَاظِ، فَنَظَرُوا فِي الشَّرِيعَةِ بِهَا، وَاطَّرَحُوا خُصُوصِيَّاتِ المَعَانِي القِيَاسِيَّةِ، وَلَمْ تَتَنَزَّلْ وَاحِدَةٌ مِنَ الفِرْقَتَيْنِ إِلَى النَّظَرِ فِيمَا نَظَرَتْ فِيهِ الأُخْرَى بِنَاءً عَلَى كُلِّيِّ مَا اعْتَمَدَتْهُ فِي فَهْمِ الشَّرِيعَةِ» (١).

هذا الكلام الذي نقلناه عن الشاطبي، والذي يدل على أصالته وعمقه


(١) " الموافقات ": ٤/ ١١٥، ١١٦. طبعة تونس.

<<  <   >  >>