للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وترك ما يشتبه في حرمته الورع بعينه، قَالَ الخَطَّابِيُّ: «كُلُّ مَا شَكَكْتُ فِيهِ فَالوَرَعُ اجْتِنَابُهُ» (١) وفي الحديث: «لَا يَبْلُغُ العَبْدُ أَنْ يَكُونَ مِنَ المُتَّقِينَ حَتَّى يَدَعَ مَا لَا بَأْسَ بِهِ حَذَرًا لِمَا بِهِ البَأْسُ»، وَقَدْ قَالَ ابْنُ عُمَرَ: «إِنِّي لَأُحِبُّ أَنْ أَدَعَ بَيْنِي وَبَيْنَ الحَرَامِ سُتْرَةً مِنَ الحَلاَلِ لَا أَخْرِقُهَا» (٢).

ولما كانت المبالغة في الورع قد تفضي إلى نوع من الوسوسة والتضييق عقب البخاري على أبواب الشبهات بقوله: (بَابُ مَنْ لَمْ يَرَ [الوَسَاوِسَ] وَنَحْوَهَا مِنَ الشُّبُهَاتِ). قال ابن حجر: «وَهَذِهِ التَّرْجَمَةُ مَعْقُودَةٌ لِبَيَانِ مَا يُكْرَهُ مِنَ التَّنَطُّعِ فِي الوَرَعِ».

قَالَ الغَزَالِيُّ: «الوَرَعُ أَقْسَامٌ: وَرَعُ الصِّدِّيقِينَ وَهُوَ تَرْكُ مَا لاَ يُتَنَاوَلُ بِغَيْرِ نِيَّةِ القُوَّةِ عَلَى العِبَادَةِ، وَوَرَعُ الْمُتَّقِينَ وَهُوَ تَرْكُ مَا لَا شُبْهَةَ فِيهِ وَلَكِنْ يُخْشَى أَنْ يَجُرَّ إِلَى الحَرَامِ وَوَرَعُ الصَّالِحِينَ وَهُوَ تَرْكُ مَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ احْتِمَالُ التَّحْرِيمِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ لِذَلِكَ الاِحْتِمَالِ مَوْقِعٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَهُوَ وَرَعُ المُوَسْوَسِينَ» (٣).

وحب التملك والرغبة في الكسب والاستزادة من الأموال، قد [تستحوذ] على شعور الإنسان، وتغرقه في مادية طاغية، تحكمها الأنانية وتقودها القسوة، وتنزوي فيها المشاعر الإنسانية النبيلة، وتذوي فيها الإحساسات الرقيقة، ويصبح الإنسان في أشد الحاجة إلى من يرطب له


(١) " فتح الباري ": ٤/ ٢٤٩، ٢٥٠، ويقول ابن العربي عن هذا الحديث: «إِنَّمَا ذَكَرَهُ العُلَمَاءُ فِي فَاتِحَةِ البُيُوعِ لِتَنْبِيهِ الخَلْقِ إِلَى الاِحْتِرَازِ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ مُشْتَبَهٍ فِي طَرِيقِ الكَسْبِ يُضَارِعُ المُحْرِمُ، فَيَجْتَنِبُهُ المُسْلِمُ الذِي يُرِيدُ أَنْ يُسْلِمَ لَهُ دِينَهُ» (انظر " الترمذي بشرح ابن العربي ": ٥/ ٢٠٦).
(٢) " جامع العلوم والحكم "، لابن رجب: ص ٦٤.
(٣) " فتح الباري ": ٤/ ٢٥١، ٢٥٢.

<<  <   >  >>