للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

مُسْرِفٌ فِي الاتِّبَاعِ، بِحَيْثُ يُخَيَّلُ لِلْبَعْضِ أَنَّهُ مُقَلِّدٌ» (١).

وليس معنى نشوء هذين المذهبين في القرن الثاني أنهما قد استوعبا كل المجتهدين، بل وجد معهما كثير من المجتهدين الذين كانت لهم آراؤهم الخاصة، وقد نجح بعضهم في أن يكون له تلاميذ قاموا بمذهبه فترة من الزمن، ويستوي في ذلك العراق والحجاز وغيرهما من الأمصار (٢).

ج - مازالت المدرستان تستخدمان الرأي في استنباطهما الفقهي. ومن الخطأ أن نتصور أن الإمام مالكًا لم يستعن بالرأي عند الحاجة إليه. وإذا لم يكن الرأي غريبًا على مدرسة المدينة منذ نشأتها - كما سبق عن عمر وزيد بن ثابت وسعيد بن المسيب، وربيعة، فإنه ليس بمستغرب أن يرث مالك هذا المنهج الاجتهادي، الذي لا يستنكف من إعمال العقل، وإبداء الرأي ومراعاة المصلحة ومسايرة روح التشريع، وَقَدْ سُئِلَ أَبُو الأَسْوَدِ (*): «مَنْ لِلْرَّأْيِ بَعْدَ رَبِيعَةَ بِالمَدِينَةِ؟»، فَيُجِيبُ بِقَوْلِهِ: «الغُلَامُ الأَصْبَحِيُّ - يَعْنِي مَالِكًا - ثُمَّ يعده ابن رشد أمير المؤمنين في الرأي والقياس» (٣).

ولقد وجدنا ابن قتيبة في كتابه " المعارف " يعد مالكًا من أصحاب الرأي. ولعله نظر إلى إكثار مالك من الرأي، وإن كان العالم في الحديث الذي عد في الرعيل الأول من رجاله. وبذلك تنهار النظرية التي تقرر أن سبب الإكثار من الرأي هو قلة العلم بالحديث، فما كان علم مالك بالحديث قليلاً، بل كان كثيرًا ولكن الحوادث التي وقعت، والمسائل التِي سُئِلَ فيها كانت أكثر بقدر كبير جدًا. فكان لا بد من الرأي، ولا بد من الإكثار


(١) انظر: " مالك "، للخولي: ٢/ ٦٩٢ وما بعدها.
(٢) كالثوري بالكوفة، والأوزاعي بالشام، والليث بمصر.
(٣) " مالك "، للخولي: ٣/ ٦٤١.

[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ / البَاحِثُ: تَوْفِيقْ بْنُ مُحَمَّدٍ القُرَيْشِي]:
(*) قَالَ أَبُو عُمَرَ: هُوَ أَبُو الأَسْوَدِ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نَوْفَلٍ الْقُرَشِيُّ الأَسَدِيُّ، ابْنُ عَمِّ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَكَانَ عُرْوَةُ قَدْ حَضَنَهُ وَرَبَّاهُ، فَكَانَ يُقَالُ لَهُ: يَتِيمُ عُرْوَةَ، وَهُوَ مِنْ جِلَّةِ شُيُوخِ مَالِكٍ الَّذِينَ أَخَذَ عَنْهُمْ، ثُمَّ انْتَقَلَ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى مِصْرَ.
انظر " الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء مالك والشافعي وأبي حنيفة - رضي الله عنهم - "، لابن عبد البر (ت ٤٦٣ هـ)، اعتنى به الشيخ عبد الفتاح أبو غدة - بَابُ قَوْلِ أَبِي الأَسْوَدِ شَيْخِ مَالِكٍ فِيهِ، ص ٥٩، الطبعة الأولى: ١٤١٧ هـ - ١٩٩٧ م، مكتب المطبوعات الإسلامية بحلب - سوريا. وانظر أيضًا: " شيوخ مالك بن أنس "، لابن خلفون (ت ٦٣٦ هـ)، تحقيق أبي عبد الباري رضا أبو شامة الجزائري: ص ٢٢٥، ترجمة رقم ٢٦، الطبعة الأولى: ١٤٢٥ هـ - ٢٠٠٤ م، مكتبة أضواء السلف. الرياض - المملكة العربية السعودية.

<<  <   >  >>