للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فَيُخَالِفُهُ إِلَى غَيْرِهِ» (١).

ويسأل الإمام أحمد بن حنبل عمن يريد أن ينظر في الرأي، ورأي من ينظر؟ فيقول: «رَأْيُ مَالِكٍ» (٢).

كلا المذهبين يستعين بالرأي في اجتهاده إذن، غاية الأمر أن منهجهما في هذا الرأي مختلف: فالمذهب الحنفي يلجأ إلى القياس لاستخراج الحكم فيما لا نص فيه، على حين يتجه المذهب المالكي إلى تعرف المصلحة فيما يرد عليه من مسائل ليس فيهما قُرْآنٌ أَوْ سُنَّةٌ.

ولعل البيئة والثقافة لهما تأثير ظاهر في اتجاه المذهبين في استنباط حكم ما وجد من الأحداث، مما لا تتناوله النصوص بطريق مباشر: فالعراقيون بعامة حيث تعددت وتنوعت منابع الثقافة عندهم، من الكتب المترجمة والفلسفات المتنوعة، وحيث كثرت عندهم المناظرات العقلية .. وأبو حنيفة بخاصة، حيث اشتغل بعلم الكلام حتى غلبت عليه الثقافة الكلامية (٣)، كان لا بد أن ينطبع فقههم بطابع استخراج العلل، وتعميم الأحكام وربط الفروع بعضها ببعض.

وقد أعانت أبا حنيفة كثرة الفروع في زمنه على تطبيق منهجه العقلي، فكل جيل كان يحفظ المسائل التي كانت قبله، ويضيف إليها مَا جَدَّ مِنْ فُرُوعٍ ثم يسلم هذه الحصيلة إلى الجيل التالي له، ليصنع فيها مثل هذا الصنيع،


(١) " تأويل مختلف الحديث " لابن قتيبة: ص ٦٢.
(٢) " مالك " للخولي: ص ٦٤١.
(٣) انظر " ضحى الإسلام ": ٢/ ١٧٩ وفيها عن أبي حنيفة: «كُنْتُ أَنْظُرُ فِي الكَلَامِ حَتَّى بَلَغْتُ فِيهِ مَبْلَغًا يُشَارُ إِلَيْهِ فِيهِ بِالأَصَابِعِ». ويروى عنه أنه قال: «كُنْتُ رَجُلاً أُعْطِيتُ جَدَلاً فِي الكَلَامِ فَمَضَى دَهْرٌ فِيهِ أَتَرَدَّدُ وَبِهِ أُخَاصِمُ، وَعَنْهُ أُفَاضِلُ». وانظر " مناقب أبي حنيفة " للموفق بن أحمد المكي: ١/ ٥٥، ٥٦.

<<  <   >  >>