من العبادات إنما شرعت للتقرب إلى الله، ومطابقة القلب للجوارح في الطاعة والانقياد، فإذا أريد بها نيل الحظ من الدنيا، من دفع مضرة أو جلب مصلحة، كالناطق بالشهادتين بقصد صيانة دمه وماله فقط، أو المصلي رئاء الناس ليحمد على ذلك أو ينال به حظًا في الدنيا - كانت هذه الأعمال مناقضة للمشروع، وإن وافقته في الظاهر. وقد أطال ابن القيم في بيان الحيل المحرمة وأنواعها وأوضح بطلانها وفسادها (١).
والقسم الثاني: لا خلاف في جوازه، كالنطق بكلمة الكفر إكراهًا عليها، فإن نسبة التحيل بها في إحراز الدم بالقصد الأول من غير اعتقاد لمقتضاها - كنسبة التحيل بكلمة الإسلام في إحراز الدم بالقصد الأول كذلك. إلا أن هذا مأذون فيه، لكونه مصلحة دنيوية لا مفسدة فيها بإطلاق لا في الدنيا ولا في الآخرة. بخلاف الأول، فإنه غير مأذون فيه لكونه مفسدة أخروية بإطلاق، والمصالح والمفاسد الأخروية مقدمة في الاعتبار على المصالح والمفاسد الدنيوية باتفاق، إذ لا يصح اعتبار مصلحة دنيوية تخل بمصالح الآخرة، فمعلوم أن ما يخل بمصالح الآخرة غير موافق لمقصود الشارع فكان باطلاً.
أما القسم الثالث: فهو في محل الإشكال والغموض، وفيه اضطربت أنظار النظار، من جهة أنه لم يتبين فيه بدليل واضح قطعي لحاقه بالقسم الأول أو الثاني، ولم يتبين فيه للشارع مقصد يتفق على أنه مراد له، ولم يتبين أنه على خلاف المصلحة التي وضعت لها الشريعة بحسب المسألة المفروضة فيه. فصار هذا القسم من هذا الوجه متنازعًا فيه هل هو غير مخالف للمصلحة، فالتحيل جائز، أو هو مخالف لها فالتحيل ممنوع؟