الإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ يُنْكِرُونَ قَوْلَهُ وَيُبَدِّعُونَهُ بِذَلِكَ، وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ مَحْسُودًا لِفَهْمِهِ وَفِطْنَتِهِ» (١).
وقد يفسر هذا تحالف بعض المعتزلة مع أهل الحديث - مع ما بينهما من عِدَاءٍ - على حرب أبي حنيفة.
إِنِّي أُرَجِّحُ أن النصف الثاني من هذا القرن كان مولد هذه العبارة (أَهْلُ الحَدِيثِ وَأَهْلُ الرَّأْيِ) بعد أن أصبح المُحَدِّثُونَ فئة متميزة متناصرة تهاجم غيرها، ولها سلطة التجريح والتعديل، هذه السلطة التي كانت من أقسى الأسلحة التي حاربوا بها خصومهم، ومنهم المدرسة العقلية الحنفية.
وينبغي أن نشير إلى أن المحدثين لم يكونوا مجمعين على الرأي السيء في أبي حنيفة، فقد وجد من بينهم أفراد قَدَّرُوهُ وأشادوا بفضله، ونقل ابن النديم أبياتًا قالها أحد المحدثين، وهو عبد الله بن المبارك في مدح أبي حنيفة وهي:
لَقَدْ زَانَ البِلَادَ وَمَنْ عَلَيْهَا ... إِمُامُ المُسْلِمِينَ أَبُو حَنِيفَهْ
بِآثَارِ وَفِقْهٍ فِي حَدِيثٍ ... كَآيَاتِ الزَّبُورِ عَلَى الصَّحِيفَهْ
فَمَا بِالمَشرِقَيْنِ لَهُ نَظيرٌ ... وَلَا بِالمَغْرِبَينِ وَلَا بِكُوفَهْ
رَأَيْتُ العَايِبِينَ لَهُ سُفَّاهًا ... خِلَافَ الحَقِّ مَعَ حُجَجٍ ضَعِيفَهْ (٢)
كما ينبغي أن نتنبه إلى أنّ اللقاءات التي كانت موجودة في القرن الأول لم تنقطع في هذا القرن، بل كانت دائرتها متصلة، وكثيرًا ما أنتجت هذه اللقاءات مناقشات ومناظرات كانت ذات أثر لا ينكر في تقارب الأفكار،
(١) " الانتقاء " لابن عبد البر: ص ١٤٩؛ و " جامع بيان العلم ": ٢/ ١٤٨، ١٤٩ وهامش " تاريخ بغداد ": ١٣/ ٢٦٩.
(٢) " الفهرست ": ص ٢٠٢، كما أثنى عليه يحيى بن معين وغيره، انظر: " تاريخ بغداد ": ١٣/ ٣٤٥ وما بعدها.