للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

بمذهب يعتبر به مفارقًا لمالك إلا بعد أن عني برأيه وحده ونشره بين الناس، وكذلك الحال في كثير من الفقهاء كأبي ثور والطبري، فقد كانا في بداية أمرهما شَافِعِيَيْنِ، وكل هذه المذاهب تعتمد على الرأي وتستعمل القياس على خلاف بينهما في الكثرة والقلة، وبذلك يصح أن تندرج كلها تحت (أَهْلِ الرَّأْيِ).

أما أهل الظاهر فهو يختلفون عن غيرهم اختلافًا يرجع إلى الأصل والأساس فإن من لا يرى العمل بالقياس أو بالمصالح المرسلة لا شك أنه يختلف مع من يراهما أصلين يعمل بهما ويبني عليهما كثيرًا من الأحكام (١).

أما التقسيم الذي يضع المذهب الحنفي تحت شعار (أَهْلِ الرَّأْيِ) ويضع باقي المذاهب تحت شعار (أَهْلِ الحَدِيثِ) فليس قائمًا على أساس موضوعي، وإنما يقوم على أساس عاطفي نفسي، فمالك ممن اشتغل برواية الحديث والشافعي شيخ أحمد بن حنبل، ورأي أحمد فيه رأي حسن، وقد تبع أحمد في ذلك من اشتغلوا برواية الحديث، ومن لم يشتغل بروايته من العامة الذين كانوا متعصبين لأحمد منذ المحنة، انسياقًا وراء العاطفة الدينية، دون أن يكون عندهم مقدرة عقلية على الموازنة والمقارنة.

إِنَّ الظَّاهِرِيَّةَ وَهُمْ طَائِفَةٌ مِنَ المُحَدِّثِينَ أصرح مواجهة مع أنفسهم ومع غيرهم، فما دامت الآثار كثيرة، وما دام القياس مذمومًا - وَهَذَا رَأْيُ عَامَّةِ المُحَدِّثِينَ - وَجَبَ حِينَئِذٍ أَنْ يُنْبَذَ القِيَاسُ وَيُكْتَفَى بِالنُّصُوصِ. أما أن القياس مذموم، ولا بأس في استعماله عند الضرورة، كما يضطر الجائع إلى أكل الميتة، فهذا رأي ينطوي في ثناياه اعترافًا بأهمية القياس وَتَعَيُّنِهِ في بعض المسائل، وَهُوَ مَا يَؤُولُ بِهِمْ إِلَى رَأْيِ أَهْلِ الرَّأْيِ الذين يعلنون أنهم لا يستخدمون القياس إلا حيث لا توجد نصوص صحيحة.


(١) انظر: المصدر السابق: ص ٢٨٧، ٢٨٨.

<<  <   >  >>