للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قال ابن العربي: "ومَنَعَه مالك (يعني الاعتكاف) تَفَطُّنا لهذه الدقيقة من قراءة العلم؛ لأنه من أسباب الدنيا، وقَصَرَه على الذكر المجرد" (١).

الترجيح: الذي يترجح في هذه المسألة -والله أعلم- هو القول الأول: أن الاعتكاف سُنَّة، وهو آكد في العشر الأواخر من رمضان؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يواظب على الاعتكاف كما مر معنا في الأدلة، وما واظب عليه - صلى الله عليه وسلم - فهو سنة ولا شك، واعتكاف أزواجه - رضي الله عنهن - من بعده دليل على أنه من السنن المؤكدة.

وأما ما استُدلّ به لأصحاب القول الثاني فيجاب عنه بما يلي:

أولا: أما قول الإمام مالك: "ولم يبلغني أن أحدا من السلف اعتكف إلا أبا بكر بن عبد الرحمن"، فالظاهر أن الإمام مالك يقصد اعتكافا معينا بصفات وشروط معينة، لا نفي مُطلق الاعتكاف.

قال الحافظ ابن حجر: "وكأنه أراد صفة مخصوصة، وإلا فقد حكيناه عن غير واحد من الصحابة" (٢).

والذي يظهر أن ما فهمه الحافظ هو مقصود الإمام مالك؛ لأنه كان يرى أن للاعتكاف شروطا لا يستطيعها كل أحد، من وجوب قضائه إذا قطعه وإن كان نفلا، وترك المعتكف طلب العلم وإقرائه، وشهود الجنائز، وعيادة المرضى، وغير ذلك مما سيأتي معنا إن شاء الله في المسائل التالية (٣).

قال ابن العربي: "والاعتكاف شرط شديد، لا يَقدِر عليه إلا من له عزم من الناس" (٤).

وعليه فإن الإمام مالك لا يرى الاعتكاف لمن رأى من نفسه عدم القدرة على الإتيان بشروطه, لا أنه كرهه مطلقا، بل جاء عنه ما يدُلّ على أنه يرى أن الاعتكاف قربة مستحبة.


(١) القبس ١/ ٥٣٢.
(٢) فتح الباري ٤/ ٢٧٢. ينظر: آثار السلف الذين اعتكفوا في مصنف ابن أبي شيبة عن عائشة برقم ٩٦٣٣، عبد الله ابن عمر برقم ٩٦٥٣, سعيد بن جبير برقم ٩٦٣٤, يعلى بن أمية برقم ٩٦٥٢، أبو قلابة برقم ٩٦٦٠، أبو الأحوص برقم ٩٦٦٧.
(٣) ينظر: ص: ٦٣٨ - ٤٢، وص: ٦٥٧ - ٦٠.
(٤) المسالك ٤/ ٢٦٣.

<<  <   >  >>