للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وقال بعضهم: في الحدود والطلاق ويجوز في النكاح (١)، فدل اختلافهم على أن شهادة النساء لم تَرِد على العموم، وإنما هي في الأموال خاصة.

قال بكر: ثم تأملت كل ما روي عن الصدر الأول والثاني، فمنهم من قال: لا تجوز في الحدود، ومنهم من قرن مع الحدود النكاح والطلاق، ومنهم من استثنى جراح الخطأ، فدل ذلك كله على أنهم أرادوا ألا تقبل شهادتهن فيما قال الله تبارك وتعالى (٢): {أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} (٣) والذي قيل فيه: {ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} (٤) والله أعلم (٥).

فأما الحكم في الأموال بشاهد ويمين، فشيء أوجبه خفي القرآن، فأوجبته السنة والنظر، فمن ذلك أن الله تبارك وتعالى قال: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} (٦) ثم قال: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} (٧) والآمر بذلك ـ جل وعز ـ قد جعله لنا وثيقة بأموالنا، ألا تراه لم يقل عند الاستيثاق فليتق الله ربه، ولم يعط ولا عند أخذ الرهن لأنه وثيقة، وقال عند الأمانة: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} (٨) فجاء على الشاهدين وثيقة العالم بأن أحدهما قد يتلف، فلو لم تكن هناك وثيقة بينها الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن باطن القرآن لكان قد جعل وثيقة لا وثيقة، فبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن شهادة أحدهما مع يمين المطالب توجب المال عند عدم أحد الشاهدين.

فإن قال قائل: فقد يجوز أن يتلف الشاهدان، قيل: قد يكون ذلك، وليس يكاد يكون تلفهما في وقت واحد، فلما كان ذلك كذلك، كان لمن له الحق أن يُشْهِد على شهادة الباقي، خوفا من تلفه (٩) شاهدين، فيكونا له عند عدم الباقي وثيقة، ومع ذلك فإن اليمين إنما جعلت على المدَّعىَ عليه، له أن يحلف فَيَبْرَأ من المطالبة في الدنيا؛ لأنه باليد أقوى من المدَّعِي، فلما أتى المدَّعِي بشاهد كان بيانه ـ من غيره ـ أقوى من بيان المدَّعىَ عليه؛ لأنه من نفسه، فنقلت اليمين لأقواهما (١٠).

وقد احتج قوم في هذا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - للأشعث بن قيس (١١): {شاهداك أو يمينه} (١٢) فقال: لا يُحْكَم إلا بشاهدين (١٣)، وهذا غلط؛ لأنه لو كان حين قيل له:


(١) ذهب الأحناف إلى جواز شهادة النساء في الحقوق التي ليست بمال: كالنكاح، والطلاق، والعتاق، والنسب. ينظر: المبسوط (١٦/ ١١٥) وبدائع الصنائع (٦/ ٢٧٩).
(٢) (لوحة رقم [٢/ ٢٨٨].
(٣) سورة النساء (١٥).
(٤) سورة الطلاق (٢).
(٥) ينظر مذاهب السلف وأقوالهم ـ رحمهم الله ـ في هذه المسألة في: مصنف عبد الرزاق [٨/ ٣٢٩ كتاب الشهادات، باب هل تجوز شهادة النساء مع الرجل في الحدود] وسنن سعيد بن منصور [١/ ٢٥٦ كتاب النكاح، باب ما جاء في شهادة النساء في النكاح] ومصنف ابن أبي شيبة [٥/ ٥٣٣ كتاب الحدود، في شهادة النساء في الحدود] واختلاف العلماء للمروزي ص ٢٨٣ ومختصر اختلاف العلماء (٣/ ٣٤٥) وبداية المجتهد (٢/ ٣٤٨).
(٦) سورة البقرة (٢٨٢).
(٧) سورة البقرة (٢٨٢).
(٨) سورة البقرة (٢٨٣).
(٩) أي خوفا من تلف الشاهد الباقي.
(١٠) بيان ذلك: أن اليمين في الدعاوى تجعل على من كان قوله أقوى من قول خصمه، وقول المدعَى عليه أقوى من قول المدعِي بغير بينه؛ لأن الأصل أن ما ادعاه المدعي لم يكن، حتى يقيم البينة الناقلة عن هذا الأصل، ولهذا جعلت اليمين عليه؛ لأن قوله أقوى، فإذا جاء المدعي ببينة غير تامة كشاهد واحد، فقد رجحت كِفْته، وقوي في الظن صدقه، فكان قوله أقوى من قول المدعى عليه، فنقلت اليمين إليه فصارت عليه.
(١١) هو: الأشعث بن قيس بن مَعْدِيْكَرب الكندي، وفد على النبي - صلى الله عليه وسلم - مع وفد كندة، شهد اليرموك والقادسية، وكان مع علي بن أبي طالب في صفين، مات بالكوفة سنة ٤٢ هـ. ينظر: طبقات ابن سعد (٦/ ٣٧٥) والإصابة (١/ ٢٣٩).
(١٢) جزء من حديث أخرجه البخاري [٥٣٣ كتاب، باب اليمين على المدعي عليه في الأموال والحدود] ومسلم [١/ ١١٤ كتاب الأيمان] من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -.
(١٣) هو قول الأحناف، ينظر: المبسوط (١٧/ ٣٠) وأحكام القرآن للجصاص (٢/ ٢٤٧) وبدائع الصنائع (٦/ ٢٢٥).

<<  <   >  >>