وهذا القول لا يُراد منه التسويغ لمن تجاوز حد القصد في كلامه، إلى الطعن والثلّب في مُخَالِفِه، ولا سيما في مسائل الفروع والأحكام، وإنما المراد تلمس العذر للأئمة الأعلام، حين نقف على بعض تلك الهفوات في مقالهم، والسقطات في كلامهم.
وفي هذا الكتاب ـ محل الدراسة ـ شيء من تلك الهنات قليل، ومواضع من تلك السقطات يسير، وقع فيها أبو الفضل، غير أنه ـ رحمه الله ـ لم يوغل في مراتعها، وإنما مر بها مرور الكرام.
وسأذكر ثلاثة أمثلة لثلاثة من الأعلام الكبار، جرى قلم أبي الفضل فيهم، وقد تقصدت أن أذكر أشدها وقعا، حتى يُعْلَم أن ما عداها لا يبلغها، كما أنها من الوضوح بحيث يكفي سماعها في معرفة أن أبا الفضل أخطأ في قوله، وما جرى فيه قلمه:
· في مسألة وجوب الحج على الفور، كان من قول الشافعي ـ رحمه الله ـ أنه لا يجب على الفور، وقد تعرض لهذه المسألة أبو الفضل، وتكلم بكلام حسن دقيق، بين فيه ضعف هذا القول، ثم أتبع ذلك بقوله:" وزعم الشافعي؛ أن للإنسان أن يؤخر حجة الإسلام المفروضة عليه، وهو ممن يستطيع الحج؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحج بعد فتح مكة عامين، فتكلم بكلام من لا يعرف لله ـ تبارك وتعالى ـ ولا لرسوله حقهما، وإنما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - عبدا مأمورا يفعل ما أمره به ربه ـ عز وجل ـ ولا يتقدم بين يدي الله ـ تبارك وتعالى ـ بشيء"(١).
· وموضع ثانٍ عند كلامه عن مسألة ضمان المواشي لما أتلتفته بالليل، ذكر قول الأحناف القائلين بعدم ضمانها استدلالا بحديث:(العجماء جبار) وناقشهم، ثم قال: " قال بكر: ورأيت أبا حنيفة يفعل في الحديث ما يفعله أهل الكلام، فيجعل بعضها معارضا لبعض، قد فعل هذا في غير شيء فمن ذلك: هذه القصة، فإنه لو هدي لرشده،
(١) ينظر من هذه الرسالة: سورة التوبة الآية رقم (٣٧).