للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

لكان جرح العجماء في الدابة وفعلها في الطريق تحت راكبها، وحَكم في المواشي بالليل بما حكم به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إذ وجد لكل حديث معنى غير الآخر وقدر على العمل بهما ـ ثم ذكر عددا من الأمثلة إلى أن قال ـ: وقال أيضا في بيع العرايا بخرصها: إنه معارض للنهي عن المزابنة، وهو رجل لا يعرف العرايا ولا هي ببلده، .... وهذه الأشياء فأبو حنيفة عزبت فيها" (١).

· وفي مسألة الظهار ذهب داود الظاهري إلى أن الظهار لا يكون إلا إذا كرر المظاهر ظهاره، أخذا بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} (٢) وقد رد عليه أبو الفضل بكلام حسن، ثم أعقبه بقوله: " فإلى الله أشتكي مصير الكلام في العلم إلى من لا دين له ولا توقي في لفظ ولا فعل ـ وهل في شيء من الحديث إلا ظهار مرة واحدة فأمروا بالكفارة ـ وإنما جاءوا للوقت، الله المستعان على ما قد ظهر في العلم" (٣) وهذه العبارة الشديدة في مسألةٍ الخلافُ فيها معتبر، نرجو أن لا يحرم المخطئ فيها من الأئمة أجر الاجتهاد إن فاته أجر الصواب، وكم أَحسنَ وأَجْمَلَ القرطبي في تعليقه على إنكار ابن العربي في أحكام القرآن نسبة هذا القول إلى بكير بن عبد الله، وجعله من جهالة داود الظاهري وأشياعه، حيث قال ـ وهو مالكي أيضا ـ " قوله: يشبه أن يكون من جهالة داود وأشياعه، حملٌ منه عليه، وقد قال بقول داود من ذكرناه عنهم" (٤).

ومع هذا فهذه السقطات قليلة في هذا الحشد الضخم من المسائل التي ساقها المؤلف وخالف فيها الأحناف والشافعية والظاهرية وغيرهم، وكان فيها عَفَّ اللسان في الخصومة، متجنبا التجريح أو التحقير، فنسأل الله تعالى أن يغفر لهم أجمعين، وأن يجزيهم عن الإسلام خيرا.

· الفقرة الثالثة: منهجه في الاختيار والترجيح.

الاختيار والترجيح في المسائل العلمية هي المحصلة النهائية، لما اكتسبه العالم من علم، وما ناله من ملكة وفهم، وبها يُعلم رسوخه في العلم وعلو كَعْبه فيه، وفي كتاب أحكام القرآن لأبي الفضل القشيري، طائفة طيبة من الاختيارات والترجيحات التي تميز بها هذا المختصر.

ولتوضيح منهجه في الاختيار وطريقته في الترجيح، أذكر النقاط الآتية:

أولا: جعل المؤلف اختياراته في غالب الأحيان في آخر كلامه عن الآية، وربما كان سبب ذلك أن كتابه مختصر، فكأنه أراد التمييز بين كلامه وبين ما اختصره من أصله.

ثانيا: كثيرا ما كان يُصَدِّر اختياراته وترجيحاته بقوله: "والصحيح عندي"، أو "والصحيح" أو "والذي عندي" ثم يخلص إلى تقرير الراجح.

ثالثا: تميزت هذه الاختيارات بتنوع جوانبها، وتعدد مجالاتها، فلم تقتصر على الجوانب الفقهية بل تعدتها إلى المعاني التفسيرية العامة المختلفة، بل حتى شمل ذلك الترجيح بين القراءات، كما في قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا} (٥) قال: " ... فكان اليأس الذي وقع للرسل، وظن قومهم أنهم قد كُذِبُوا ـ مخففة ـ أيس الرسل من قومهم أن يؤمنوا، وظن قومهم أن الرسل قد كذبوا ما جاءوهم به، جاءهم نصر الله عند ذلك، وقد قرأها قوم {قَدْ كُذِّبُوا} ثقيلة مشددة، ومعناها: حتى إذا استيأس الرسل من قومهم أن يؤمنوا، {وَظَنُّوا} هاهنا ظن الرسل أن قومهم قد قاموا على تكذيبهم،


(١) ينظر من هذه الرسالة: سورة الأنبياء الآية رقم (٧٨).
(٢) سورة المجادلة (٣).
(٣) ينظر من هذه الرسالة: سورة المجادلة الآية رقم (٣).
(٤) الجامع لأحكام القرآن (١٧/ ٢٦٨)
(٥) سورة يوسف (١١٠).

<<  <   >  >>