للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

لآخرته؛ أي: تقديمَ ما يجعلُه ذُخْرًا ليوم الجزاء، فيُؤدِّي حقوقَ اللَّه تعالى مِن ماله، فإنا نُعطيه زيادةً على ما أعطاه مِن ماله، بأنْ نُضاعِفَ له نفقَتَه بالواحدة عشرًا إلى سبع مئة وأكثرَ، كأنَّه حرَثَ شيئًا وحرَثَ له غيرُه أشياءَ زائدةً عليه، وقد مثَّل اللَّهُ النَّفَقَةَ في سبيله بمَن بذَرَ حبَّةً، فأنبتتْ سبعَ سنابل، في كلِّ سُنْبُلةٍ مئةُ حبَّةٍ، واللَّهُ يُضاعف لمَن يشاء.

{وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا}: أي: ومَن كان طلَبُه بما رُزِقَ مِن المال رياءَ الناس، والمُكاثرةَ به، والتَّوَسُّعَ في الملاذِّ المحظورة، فإنما نُؤْتِه منها؛ أي: لا نحرِمُه الرزقَ أصلًا، بل نُعطِيه ما قدَّرْناه له {وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ}، وهو كقوله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} [الإسراء: ١٨].

وقيل: الآيةُ في قوم كانوا يُجاهدون مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فبيَّنَ أنَّ مَن كان منهم يُريدُ الآخرةَ بذلك ونعيمَها يُعطى زيادةً على ما يستحِقُّه بعمَلِه، ومَن أراد به الدنيا ومَنافِعَها مِن الغنائم نُؤْتِه منها، ولكنْ لا نَصيبَ له في الآخرة.

وقيل: عُنِيَ به المنافقون.

وقال قتادة: {وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ}: هم اليهود والنصارى، قالوا: أُنْزِلَ كتابنُا قَبْل كتابِكم، ونبيُّنا قَبْل نبيِّكم، فنحن أَولى باللَّه منكم، فنزَلَ: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ} الآية (١).

ومعناه: أنَّ المَنْزِلَةَ عند اللَّه تعالى ليست بتقديمِ كتابٍ ولا نبيٍّ، إنما هي على الأعمال الصالحة، فمَن طلَبَ بما أُوتي مِن الكتابِ المُتقَدِّمِ والنبيِّ المُتقَدِّمِ رياسةَ


(١) رواه عبد الرزاق في "تفسيره" (٢٧٣٣)، والطبري في "تفسيره" (٢٠/ ٤٨٩)، وليس فيهما أن قوله هذا سبب لنزول قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ}.