فَالْمُزَارَعَةُ تَسْلِيمُ الْأَرْضِ لِرَجُلٍ لِيَزْرَعَهَا بِبَعْضِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَالْبَذْرُ مِنْ الْمَالِكِ. وَالْمُخَابَرَةُ كَالْمُزَارَعَةِ لَكِنَّ الْبَذْرَ مِنْ الْعَامِلِ. وَكِرَاءُ الْأَرْضِ سَيَأْتِي. فَلَوْ كَانَ بَيْنَ الشَّجَرِ نَخْلًا كَانَ أَوْ عِنَبًا أَرْضٌ لَا زَرْعَ فِيهَا صَحَّتْ الزِّرَاعَةُ عَلَيْهَا مَعَ الْمُسَاقَاةِ عَلَى الشَّجَرِ تَبَعًا لِلْحَاجَةِ إلَى ذَلِكَ، إنْ اتَّحَدَ عَقْدٌ وَعَامِلٌ بِأَنْ يَكُونَ عَامِلُ الْمُزَارَعَةِ هُوَ عَامِلُ الْمُسَاقَاةِ
ــ
[حاشية البجيرمي]
فُرُوضِ الْكِفَايَةِ فَإِنَّ الصِّنَاعَاتِ لَوْ تُرِكَتْ لَبَطَلَتْ الْمَعَايِشُ وَهَلَكَتْ الْخَلْقُ، وَلَوْ أَقْبَلَ كُلُّهُمْ عَلَى صَنْعَةٍ وَاحِدَةٍ تَعَطَّلَتْ الْبَوَاقِي وَهَلَكُوا؛ وَعَلَى هَذَا حُمِلَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اخْتِلَافُ أُمَّتِي رَحْمَةٌ» أَيْ اخْتِلَافُ هِمَمِهِمْ فِي الصِّنَاعَاتِ وَالْحِرَفِ. وَمِنْ الصِّنَاعَاتِ مَا هِيَ مُهِمَّةٌ وَمَا يُسْتَغْنَى عَنْهَا لِخَسَّتِهَا كَالْحِجَامَةِ لِخُبْثِ كَسْبِ صَاحِبِهَا، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كَسْبُ الْحَجَّامِ خَبِيثٌ» فَيَنْبَغِي لِذِي الْهِمَّةِ وَالْمُرُوءَةِ أَنْ يَشْتَغِلَ بِصَنْعَةٍ مُهِمَّةٍ لِيَكُونَ فِي قِيَامِهِ بِهَا كِفَايَةُ الْمُسْلِمِينَ بِمُهِمٍّ فِي الدِّينِ. وَيَجْتَنِبُ أَيْضًا صِنَاعَةَ الْغِشِّ وَالصِّيَاغَةِ وَمِنْ ذَلِكَ خِيَاطَةُ الْإِبْرَيْسَمِ لِلرِّجَالِ وَصِيَاغَةِ الصَّائِغِ خَوَاتِيمَ الذَّهَبِ لِلرِّجَالِ، فَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ الْمَعَاصِي وَالْأُجْرَةُ الْمَأْخُوذَةُ عَلَيْهِ حَرَامٌ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْحُرْمَةِ قَزَّازَةُ الشُّدُودِ الْحَرِيرَ لِلرِّجَالِ؛ ذَكَرَهُ عَبْدُ الْبَرِّ الَأُجْهُورِيُّ.
وَعِبَارَةُ ع ش: أَفْضَلُ الْكَسْبِ الزِّرَاعَةُ ثُمَّ الصِّنَاعَةُ ثُمَّ التِّجَارَةُ أَيْ لِمَا فِي الزِّرَاعَةِ مِنْ مَزِيدِ التَّوَكُّلِ وَنَفْعِ الطُّيُورِ وَغَيْرِهَا، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَكْتَسِبُ بِالتِّجَارَةِ مَنْ لَهُ مَنْ يَتَّجِرُ لَهُ وَمِمَّنْ يَكْتَسِبُ بِالصِّنَاعَةِ مَنْ لَهُ صُنَّاعٌ تَحْتَ يَدِهِ وَهُوَ لَا يُبَاشِرُ وَمِمَّنْ يَكْتَسِبُ بِالزِّرَاعَةِ مَنْ لَهُ مَنْ يَزْرَعُ لَهُ وَهُوَ لَا يُبَاشِرُ اهـ ح ل.
وَفِي الْحَدِيثِ: «مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُد - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ» اهـ؛؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فِيهِ إيصَالُ النَّفْعِ إلَى الْكَاسِبِ وَإِلَى غَيْرِهِ وَالسَّلَامَةُ عَنْ الْبَطَالَةِ الْمُؤَدِّيَةِ إلَى الْفُضُولِ؛ لِأَنَّ فِي الْكَسْبِ كَسْرُ النَّفْسِ وَالتَّعَفُّفُ عَنْ ذُلِّ السُّؤَالِ. وَكَانَ دَاوُد - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَعْمَلُ الزَّرَدَ يَبِيعُهُ لِقَوْمِهِ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ حَاجَةٍ؛ لِأَنَّهُ كَانَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ، وَإِنَّمَا ابْتَغَى الْأَكْلَ مِنْ طَرِيقِ الْأَفْضَلِ. وَقَدْ كَانَ نَبِيُّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْكُلُ مِنْ سَعْيِهِ الَّذِي يَكْتَسِبُهُ مِنْ أَمْوَالِ الْكُفَّارِ بِالْجِهَادِ، وَهُوَ أَشْرَفُ الْمَكَاسِبِ عَلَى الْإِطْلَاقِ لِمَا فِيهِ مِنْ إعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ. وَكَانَ نُوحٌ نَجَّارًا وَإِبْرَاهِيمُ بَزَّازًا وَإِدْرِيسُ خَيَّاطًا، وَنَحْوُ هَذَا لَا يُفِيدُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقْتَاتُونَ مِنْ ذَلِكَ. وَذَكَرَ صَاحِبُ كِتَابِ: بَصَائِرُ الْقُدَمَاءِ وَسَرَائِرُ الْحُكَمَاءِ صِنَاعَةَ كُلِّ مَنْ عُلِمَتْ صِنَاعَتُهُ مِنْ الصَّحَابَةِ فَقَالَ: كَانَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ بَزَّازًا وَكَذَلِكَ عُثْمَانُ وَطَلْحَةُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَكَانَ عُمَرُ دَلَّالًا يَسْعَى بَيْنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي، وَكَانَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ حَدَّادًا، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَدْعَانَ نَخَّاسًا أَيْ دَلَّالًا يَبِيعُ الْجَوَارِيَ، وَكَانَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ عَوَّادًا يَضْرِبُ بِالْعُودِ. وَكَانَ الْحَكَمُ بْنُ الْعَاصِ يَخْصِي الْغَنَمَ، وَكَانَ الْعَاصِ بْنُ وَائِلٍ السَّهْمِيُّ بَيْطَارًا يُعَالِجُ الْخَيْلَ. وَبِالْجُمْلَةِ فَمَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إلَّا وَلَهُ صِنَاعَةٌ، وَكَذَلِكَ أَكَابِرُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كَمَا تَقَدَّمَ وَغَيْرُهُمْ مِنْ بَقِيَّةِ الصَّحَابَةِ كَمَا هُوَ الْمَشْهُورُ، وَكَذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ؛ فَمِنْهُمْ الْقَفَّالُ الْكَبِيرُ وَالصَّغِيرُ كَانَا يَصْنَعَانِ الْأَقْفَالِ إلَى أَنْ فَعَلَ قُفْلًا بِمِفْتَاحِهِ وَزْنَ ثَلَاثِ حَبَّاتِ شَعِيرٍ فَجَاءَتْهُ امْرَأَةٌ وَسَأَلَتْهُ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَلَمْ يُجِبْهَا، فَخَايَلَتْ عَلَيْهِ فَتَرَكَ الصَّنْعَةَ وَاشْتَغَلَ بِالْعِلْمِ. وَالزَّجَّاجَانِ كَانَا يَصْنَعَانِ الزُّجَاجَ، وَالْفَرَّاءُ كَانَ يَصْنَعُ الْفِرَاءَ، وَالْإِسْنَوِيُّ كَانَ نَجَّارًا وَالشَّيْخُ جَلَالُ الدِّينِ الْمَحَلِّيُّ كَانَ تَاجِرًا تَحْتَ الرَّبْعِ، وَغَيْرُهُمْ مِنْ بَقِيَّةِ الْعُلَمَاءِ كَمَا هُوَ مَشْهُورٌ.
قَوْلُهُ: (فَالْمُزَارَعَةُ تَسْلِيمُ الْأَرْضِ) أَيْ بِعَقْدٍ كَأَنْ يَقُولَ لَهُ عَامَلْتُك عَلَى الْأَرْضِ لِتَزْرَعَهَا وَالْغَلَّةُ الْحَاصِلَةُ بَيْنَنَا نِصْفَانِ مَثَلًا.
قَوْلُهُ: (لِرَجُلٍ) أَيْ مَثَلًا.
قَوْلُهُ: (وَكِرَاءُ الْأَرْضِ سَيَأْتِي) أَيْ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ أَكْرَاهُ إيَّاهَا بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ إلَخْ.
قَوْلُهُ: (فَلَوْ كَانَ بَيْنَ الشَّجَرِ) الْمُنَاسِبُ ذِكْرُ هَذَا بَعْدَ قَوْلِ الْمَتْنِ لَمْ يَجُزْ بَعْدَ تَقْيِيدِهِ بِقَوْلِهِ اسْتِقْلَالًا فِي جَانِبِ الْمُزَارَعَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ دُخُولٌ عَلَى الْمَتْنِ.
قَوْلُهُ: (بِأَنْ يَكُونَ عَامِلُ الْمُزَارَعَةِ) أَيْ فَلَا يَضُرُّ تَعَدُّدُهُ فَالْمُرَادُ بِاتِّحَادِهِ أَنْ لَا تُفْرَدَ الْمُسَاقَاةُ بِعَامِلٍ وَالْمُزَارَعَةُ بِعَامِلٍ. قَوْلُهُ: (وَقُدِّمَتْ الْمُسَاقَاةُ) أَيْ فِي صِيغَةِ الْعَقْدِ أَيْ لَمْ تَتَأَخَّرْ الْمُسَاقَاةُ، فَيَدْخُلُ مَا لَوْ كَانَا مَعًا كَعَامَلْتُكَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute