كِتَابُ الْحُدُودِ جَمْعُ حَدٍّ وَهُوَ لُغَةً الْمَنْعُ وَشَرْعًا عُقُوبَةٌ مُقَدَّرَةٌ وَجَبَتْ زَجْرًا عَنْ ارْتِكَابِ مَا يُوجِبُهُ وَعَبَّرَ عَنْهَا جَمْعًا لِتَنَوُّعِهَا، وَلَوْ عَبَّرَ بِالْبَابِ لَكَانَ أَوْلَى لِمَا تَقَدَّمَ أَنَّ التَّرْجَمَةَ بِالْجِنَايَاتِ شَامِلَةٌ لِلْحُدُودِ وَبَدَأَ مِنْهَا بِالزِّنَا وَهُوَ بِالْقَصْرِ لُغَةٌ حِجَازِيَّةٌ وَبِالْمَدِّ لُغَةٌ تَمِيمِيَّةٌ، وَاتَّفَقَ أَهْلُ الْمِلَلِ عَلَى تَحْرِيمِهِ وَهُوَ مِنْ أَفْحَشِ الْكَبَائِرِ وَلَمْ يَحِلَّ فِي مِلَّةٍ قَطُّ، وَلِهَذَا كَانَ حَدُّهُ أَشَدَّ الْحُدُودِ لِأَنَّهُ جِنَايَةٌ عَلَى الْأَعْرَاضِ وَالْأَنْسَابِ فَقَالَ:
(وَالزَّانِي) أَيْ الَّذِي يَجِبُ حَدُّهُ وَهُوَ مُكَلَّفٌ وَاضِحُ الذُّكُورَةِ أَوْلَجَ
ــ
[حاشية البجيرمي]
[كِتَابُ الْحُدُودِ]
ِ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا لَهَا نِهَايَاتٌ مَضْبُوطَةٌ وَكَانَتْ الْحُدُودُ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ بِالْغَرَامَاتِ ثُمَّ نُسِخَتْ بِهَذِهِ الْعُقُوبَاتِ قَالَ بَعْضُهُمْ وَشُرِعَتْ زَجْرًا لِأَرْبَابِ الْمَعَاصِي عَنْهَا فَإِذَا عَلِمَ الزَّانِي مَثَلًا أَنَّهُ إذَا زَنَى حُدَّ امْتَنَعَ مِنْهُ وَهَكَذَا أَقُولُ وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى أَنَّ الْحُدُودَ زَوَاجِرُ وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا فِي الْمُسْلِمِ جَوَابِرُ لِسُقُوطِ عُقُوبَتِهَا فِي الْآخِرَةِ إذَا اُسْتُوْفِيَتْ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْكَافِرِ زَوَاجِرُ بِرْمَاوِيٌّ قَوْلُهُ وَهُوَ لُغَةً الْمَنْعُ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِمَنْعِهَا مِنْ ارْتِكَابِ الذَّنْبِ وَقِيلَ لِأَنَّ اللَّهَ حَدَّدَهَا وَقَدَّرَهَا فَلَا يُزَادُ عَلَيْهَا وَلَا يُنْقَصُ وَأَخَّرَ حَدَّ الزِّنَا عَنْ الْقَتْلِ لِأَنَّهُ دُونَهُ أَيْ بِالنَّظَرِ لِزِنَا غَيْرِ الْمُحْصَنِ فَهُوَ دُونَهُ فِي الْجُمْلَةِ قَوْلُهُ مُقَدَّرَةٌ أَخْرَجَ التَّعْزِيرَ قَوْلُهُ وَجَبَتْ زَجْرًا أَيْ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْحُدُودَ زَوَاجِرُ وَقَدْ يُقَالُ كَلَامُ الشَّارِحِ لَا يُنَافِي أَنَّهَا جَوَابِرُ إذْ مَعْنَى كَوْنِهَا زَوَاجِرَ أَنَّهَا مَانِعَةٌ لِلشَّخْصِ مِنْ الْعَوْدِ لِمِثْلِهَا فَلَا يُنَافِي كَوْنَهَا جَوَابِرَ
قَوْلُهُ مَا يُوجِبُهُ أَيْ الْمَذْكُورُ مِنْ الْعُقُوبَةِ أَوْ أَنَّهُ ذَكَرَ بِتَأْوِيلِهَا بِالْحَدِّ أَوْ أَنَّ الضَّمِيرَ رَاجِعٌ لِلْحَدِّ لِأَنَّهُ الْمُعَرَّفُ قَوْلُهُ لَكَانَ أَوْلَى الْأَوْلَى مَا صَنَعَهُ الْمَتْنُ لِأَنَّ ذَاكَ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى الْأَبَدَانِ فَلَمْ يَشْمَلْ مَا هُنَا فَكَانَ مَا هُنَا جِنْسًا آخَرَ فَيُنَاسِبُهُ التَّعْبِيرُ بِالْكِتَابِ قَوْلُهُ لِلْحُدُودِ أَيْ لِأَسْبَابِ الْحُدُودِ لِأَنَّ الْحُدُودَ لَيْسَتْ جِنَايَةً قَوْلُهُ وَبَدَأَ مِنْهَا بِالزِّنَا أَيْ بِحَدِّ الزِّنَا.
قَوْلُهُ: (حِجَازِيَّةٌ) وَهِيَ أَفْصَحُ لِأَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ بِهَا وَهَذَا بِاعْتِبَارِ لَفْظِهِ، وَأَمَّا بِاعْتِبَارِ مَعْنَاهُ، فَهُوَ لُغَةً مُطْلَقُ الْإِيلَاجِ وَشَرْعًا إيلَاجُ الذَّكَرِ فِي قُبُلِ الْآدَمِيِّ، أَوْ فِي فَرْجِ الْآدَمِيِّ، أَوْ فِي الْفَرْجِ مُطْلَقًا اهـ ق ل
قَوْلُهُ وَهُوَ مِنْ أَفْحَشِ الْكَبَائِرِ أَيْ بَعْدَ الْقَتْلِ عَلَى الْأَصَحِّ وَمِنْ السَّبْعِ الْمُوبِقَاتِ وَمِنْ الْكُلِّيَّاتِ الْخَمْسِ وَإِنَّمَا جُعِلَتْ عُقُوبَةُ الزِّنَا بِمَا ذُكِرَ وَلَمْ تُجْعَلْ بِقَطْعِ آلَةِ الزِّنَا كَالسَّارِقِ تُقْطَعُ يَدُهُ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى قَطْعِ النَّسْلِ وَلِأَنَّ قَطْعَ آلَةِ السَّرِقَةِ تَعُمُّ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى وَقَطْعَ الذَّكَرِ يَخُصُّ الرَّجُلَ وَلِأَنَّ الذَّكَرَ لَا ثَانِيَ لَهُ بِخِلَافِ الْيَدِ وَاعْلَمْ أَنَّ ارْتِكَابَ الْكَبَائِرِ لَا يَسْلُبُ الْإِيمَانَ وَلَا يُحْبِطُ الطَّاعَاتِ إذْ لَوْ كَانَتْ مُحْبِطَةً لِذَلِكَ لَلَزِمَ أَنْ لَا يَبْقَى لِبَعْضِ الْعُصَاةِ طَاعَةٌ وَالْقَائِلُ بِالْإِحْبَاطِ يُحِيلُ دُخُولَهُ الْجَنَّةَ قَالَ السُّبْكِيُّ وَالْأَحَادِيثُ الدَّالَّةُ عَلَى دُخُولِ مَنْ مَاتَ غَيْرَ مُشْرِكٍ الْجَنَّةَ بَلَغَتْ مَبْلَغَ التَّوَاتُرِ وَهِيَ قَاصِمَةٌ لِظُهُورِ الْمُعْتَزِلَةِ الْقَائِلِينَ بِخُلُودِ أَهْلِ الْكَبَائِرِ فِي النَّارِ ذَكَرَهُ الْمُنَاوِيُّ
فَرْعٌ سُئِلَ الشَّمْسُ الرَّمْلِيُّ فِيمَنْ زَنَى مِائَةَ مَرَّةٍ مَثَلًا فَهَلْ يَلْزَمُهُ فِي كُلِّ مَرَّةٌ حَدٌّ وَإِذَا تَابَ عِنْدَ الْمَوْتِ هَلْ يَسْقُطُ عَنْهُ الْحَدُّ وَهَلْ لِلزَّوْجِ عَلَى مَنْ زَنَى بِزَوْجَتِهِ بِغَيْرِ عِلْمِهِ حَقٌّ وَإِذَا تَابَ الزَّانِي هَلْ يَسْقُطُ حَقُّ زَوْجِهَا عَنْهُ فَأَجَابَ يُكْتَفَى بِحَدٍّ وَاحِدٍ لِاتِّحَادِ الْجِنْسِ وَلَا حَدَّ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ وَلِلزَّوْجِ حَقٌّ عَلَى الزَّانِي بِزَوْجَتِهِ وَيَسْقُطُ حَقُّهُ بِالتَّوْبَةِ الَّتِي تَوَفَّرَتْ شُرُوطُهَا. اهـ. ع ش عَلَى م ر
قَوْلُهُ وَلَمْ يَحِلَّ فِي مِلَّةٍ قَطُّ أَعَادَهُ تَوْطِئَةً لِقَوْلِهِ وَلِهَذَا
قَوْلُهُ عَلَى الْأَعْرَاضِ الْعِرْضُ يُقَالُ عَلَى الْجَسَدِ وَعَلَى النَّفْسِ وَعَلَى الْحَسَبِ. اهـ. مُخْتَارٌ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ هُنَا الثَّانِي وَقِيلَ الْمُرَادُ بِهِ مَحَلُّ الْمَدْحِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute