للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تَعَالَى مُدَّةً مِنْ الزَّمَانِ

بَعْدَ أَنْ صَلَّيْت رَكْعَتَيْنِ فِي مَقَامِ إمَامِنَا الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ وَجَعَلَ الْجَنَّةَ مُتَقَلَّبَهُ وَمَثْوَاهُ، فَلَمَّا انْشَرَحَ لِذَلِكَ صَدْرِي شَرَعْت فِي شَرْحٍ تَقَرُّ بِهِ أَعْيُنُ أُولِي الرَّغَبَاتِ، رَاجِيًا بِذَلِكَ جَزِيلَ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ؛

أُجَافِي فِيهِ

ــ

[حاشية البجيرمي]

الْإِمَامِ وَلَمْ يَذْكُرْ مَعَهَا الصَّلَاةَ، وَيَحْتَمِلُ غَيْرُ ذَلِكَ ق ل أَيْ: بِأَنْ يُرَادَ بِالرَّكْعَتَيْنِ صَلَاةُ الِاسْتِخَارَةِ. لَا يُقَالُ إنَّ الِاسْتِخَارَةَ لَيْسَتْ مَطْلُوبَةً فِي هَذَا لِأَنَّهُ خُيِّرَ. لِأَنَّا نَقُولُ: إنَّ أَوْقَاتَ الْمُؤَلِّفِ كُلَّهَا مَغْمُورَةٌ بِالطَّاعَةِ، فَالِاسْتِخَارَةُ إنَّمَا هِيَ لِتَقْدِيمِ الْأَفْضَلِ مِنْهَا. وَعِبَارَةُ م د قَوْلُهُ: فَاسْتَخَرْت مَعْطُوفٌ عَلَى الْتَمَسَ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الِاسْتِخَارَةَ عَقِبَ الِالْتِمَاسِ، لَكِنْ يُنَافِيهِ قَوْلُهُ بَعْدُ: أَنْ صَلَّيْت فَإِنَّهُ يَقْتَضِي تَخَلُّلَ الصَّلَاةِ بَيْنَ الِالْتِمَاسِ وَالِاسْتِخَارَةِ، لِأَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ فَاسْتَخَرْت دَعَوْت بِدُعَاءِ الِاسْتِخَارَةِ وَطَلَبْت مِنْهُ تَعَالَى مَا هُوَ خَيْرٌ، لِأَنَّ مَا سَأَلُوهُ وَإِنْ كَانَ خَيْرًا فَقَدْ يَكُونُ غَيْرُهُ مِنْ الْخَيْرَاتِ أَفْضَلَ مِنْهُ لِكَوْنِهِ أَهَمَّ بِالتَّعْقِيبِ فِي ذَلِكَ عَلَى حَدِّ: تَزَوَّجَ زَيْدٌ فَوُلِدَ لَهُ، فَانْدَفَعَ قَوْلُ ق ل. ظَاهِرُ كَلَامِهِ أَنَّ الِاسْتِخَارَةَ بِغَيْرِ صَلَاةٍ لِأَنَّهُ جَعَلَ مُدَّتَهَا بَعْدَ صَلَاةِ الرَّكْعَتَيْنِ فِي مَقَامِ الْإِمَامِ، وَلَمْ يَذْكُرْ مَعَهَا صَلَاةً. وَقَوْلُهُ: فَانْدَفَعَ أَيْ بِتَفْسِيرِ اسْتَخَرْت ب دَعَوْت دُعَاءَ الِاسْتِخَارَةِ أَيْ بَعْضَ صُلَاتِهَا وَهِيَ الرَّكْعَتَانِ الْمَذْكُورَتَانِ.

قَوْلُهُ: (مُدَّةً مِنْ الزَّمَانِ) أَيْ مَرَّاتٍ كَثِيرَةً، وَالْمُدَّةُ الْقِطْعَةُ مِنْ الزَّمَانِ تَقَعُ عَلَى الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ. قِيلَ: الْأَوْلَى حَذْفُ قَوْلِهِ مُدَّةً مِنْ الزَّمَانِ إذْ كُلُّ شَيْءٍ فِي الدُّنْيَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُدَّةٍ. وَأُجِيبُ: بِأَنَّ فَائِدَةَ ذِكْرِهِ التَّنْبِيهَ عَلَى تَكْرَارِ الِاسْتِخَارَةِ ح ف قَوْلُهُ: (- رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -) أَيْ أَبْعَدَ عَنْهُ السَّخَطَ بِوَاسِطَةِ الرِّضَا.

قَوْلُهُ: (وَأَرْضَاهُ) أَيْ أَعْطَاهُ مَا يَرْضَى بِهِ. وَفِي كَلَامِهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ اسْتِعْمَالَ التَّرَضِّي فِي غَيْرِ الصَّحَابَةِ جَائِزٌ كَمَا هُنَا، وَإِنْ كَانَ الْكَثِيرُ اسْتِعْمَالَهُ فِي الصَّحَابَةِ وَالتَّرَحُّمَ فِي غَيْرِهِمْ. اهـ. م ر. قَوْلُهُ: (وَجَعَلَ الْجَنَّةَ مُتَقَلَّبَهُ) أَيْ مَحَلَّ تَرَدُّدِهِ. وَقَوْلُهُ: (وَمَثْوَاهُ) أَيْ مَحَلَّ إقَامَتِهِ. قَوْلُهُ: (فَلَمَّا انْشَرَحَ لِذَلِكَ صَدْرِي) أَيْ اطْمَأَنَّ وَرَكَنَ قَلْبِي إلَيْهِ، فَإِطْلَاقُ الصَّدْرِ عَلَيْهِ مَجَازٌ مُرْسَلٌ مِنْ تَسْمِيَةِ الْحَالِ وَهُوَ الْقَلْبُ بِاسْمِ الْمَحَلِّ وَهُوَ الصَّدْرُ.

قَوْلُهُ: (شَرَعْت فِي شَرْحٍ) أَرَادَ بِهِ مَا يَشْمَلُ الْخُطْبَةَ لِأَنَّهَا مُقَدَّمَةٌ عَلَيْهِ. قَوْلُهُ: (تَقَرُّ بِهِ) بِفَتْحِ الْقَافِ مِنْ بَابِ تَعِبَ أَوْ بِكَسْرِ الْقَافِ مِنْ بَابِ ضَرَبَ فَالْمَاضِي الَّذِي هُوَ قَرَّ أَصْلُهُ عَلَى الْأَوَّلِ قَرِرَ عَلَى وَزْنِ تَعِبَ وَعَلَى الثَّانِي أَصْلُهُ قَرَرَ عَلَى وَزْنِ ضَرَبَ وَالْمُضَارِعُ عَلَى الْأَوَّلِ أَصْلُهُ تَقْرَرُ عَلَى وَزْنِ تَتْعَبُ وَعَلَى الثَّانِي أَصْلُهُ تَقْرِرُ عَلَى وَزْنِ تَضْرِبُ فَهُوَ مِنْ بَابَيْ ضَرَبَ وَتَعِبَ كَمَا فِي الْمِصْبَاحِ أَيْ يَحْصُلُ بِهِ سُرُورٌ وَفَرَحٌ لِمَنْ يَطَّلِعُ عَلَيْهِ قِ ل فَأَرَادَ بِالْأَعْيُنِ الذَّوَاتَ مَجَازًا مُرْسَلًا مِنْ إطْلَاقِ الْجُزْءِ عَلَى الْكُلِّ وَعَبَّرَ بِالْأَعْيُنِ لِأَنَّهَا أَقْوَى أَسْبَابِ الِاطِّلَاعِ فَهُوَ شَامِلٌ لِلْأَعْمَى وَمَعْنَاهُ فِي الْأَصْلِ تَبْرُدُ بِهِ دُمُوعُ أَعْيُنِهِمْ فَهُوَ مِنْ الْقُرِّ بِضَمِّ الْقَافِ وَهُوَ الْبَرْدُ، فَكَنَّى بِهِ عَنْ سُرُورِهِمْ بِهِ، فَإِنَّ دَمْعَةَ السُّرُورِ بَارِدَةٌ وَدَمْعَةَ الْحُزْنِ حَارَّةٌ فَيَلْزَمُ مِنْ بَرْدِ الْعَيْنِ السُّرُورُ فَهُوَ كِنَايَةٌ اصْطِلَاحِيَّةٌ.

قَوْلُهُ: (أُولِي) أَيْ أَصْحَابُ. وَالرَّغَبَاتِ: جَمْعُ رَغْبَةٍ وَهِيَ الِانْهِمَاكُ عَلَى الْخَيْرِ طَلَبًا لِحِيَازَةِ مَعَالِيهِ. قَوْلُهُ: (رَاجِيًا) أَيْ مُؤَمِّلًا حَالٌ مِنْ التَّاءِ فِي شَرَعْت. قَوْلُهُ: (جَزِيلَ الْأَجْرِ) أَيْ الْأَجْرَ الْجَزِيلَ أَيْ الْكَثِيرَ.

قَوْلُهُ: (وَالثَّوَابِ) عَطْفُ تَفْسِيرٍ وَهُوَ مِقْدَارٌ مِنْ الْجَزَاءِ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ، فَالْأَجْرُ وَالثَّوَابُ بِمَعْنًى، وَقَدْ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْأَجْرَ مَا كَانَ فِي مُقَابَلَةِ الْعَمَلِ، وَالثَّوَابُ مَا كَانَ تَفَضُّلًا وَإِحْسَانًا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِي كَلَامِهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْعَمَلَ لِلَّهِ تَعَالَى مَعَ إرَادَةِ الثَّوَابِ جَائِزٌ وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ أَكْمَلَ مِنْهُ.

[مَبْحَثُ دَرَجَاتِ الْإِخْلَاصِ]

ِ قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: دَرَجَاتُ الْإِخْلَاصِ ثَلَاثٌ: عُلْيَا وَوُسْطَى وَدُنْيَا، فَالْعُلْيَا أَنْ يَعْمَلَ الْعَبْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ امْتِثَالًا لِأَمْرِهِ وَقِيَامًا بِحَقِّ عُبُودِيَّتِهِ لَا طَمَعًا فِي جَنَّتِهِ وَلَا خَوْفًا مِنْ نَارِهِ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَتْ رَابِعَةُ الْعَدَوِيَّةُ: مَا عَبَدْتُك طَمَعًا فِي جَنَّتِك وَلَا خَوْفًا مِنْ نَارِك إنَّمَا عَبَدْتُك امْتِثَالًا لِأَمْرِك، وَالْوُسْطَى أَنْ يَعْمَلَ الْعَبْدُ لِثَوَابِ الْآخِرَةِ، وَمِنْ هَذَا قَوْلُ الْمُؤَلِّفِ كَغَيْرِهِ رَاجِيًا بِذَلِكَ جَزِيلَ الْأَجْرِ إلَخْ. وَالدُّنْيَا أَنْ يَعْمَلَ الْعَبْدُ لِلْإِكْرَامِ مِنْ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا وَالسَّلَامَةِ مِنْ آفَاتِهَا، وَمَا عَدَا هَذِهِ الثَّلَاثَةَ رِيَاءٌ وَإِنْ تَفَاوَتَتْ أَفْرَادُهُ. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: إذَا كَانَ هُنَاكَ قَصْدٌ دُنْيَوِيٌّ وَقَصْدٌ أُخْرَوِيٌّ كَمَنْ سَافَرَ لِلْحَجِّ وَالتِّجَارَةِ، أَوْ لِلْجِهَادِ وَالْغَنِيمَةِ، أَوْ لِلْهِجْرَةِ وَالزَّوَاجِ، فَإِنْ كَانَ الْقَصْدُ الدُّنْيَوِيُّ هُوَ الْأَغْلَبُ لَمْ يَكُنْ فِيهِ أَجْرٌ، وَإِنْ كَانَ الْقَصْدُ الدِّينِيُّ هُوَ الْأَغْلَبُ أُجِرَ بِقَدْرِهِ، وَإِنْ تَسَاوَيَا فَلَا أَجْرَ.

قَوْلُهُ: (أُجَافِي) أَيْ أَتْرُكُ فِيهِ الْإِيجَازَ الْمُخِلَّ أَيْ تَقْلِيلَ اللَّفْظِ الْمُضِرَّ وَالْمَقْصُودُ تَرْكُ الصِّفَةِ فِيهِ وَفِيمَا

<<  <  ج: ص:  >  >>