للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ

وَصَفِيُّهُ وَخَلِيلُهُ

إمَامُ كُلِّ إمَامٍ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ.

ــ

[حاشية البجيرمي]

الْمَعْبُودَ بِبَاطِلٍ لَهُ وُجُودٌ فِي الْخَارِجِ وَوُجُودٌ فِي ذِهْنِ الْمُؤْمِنِ بِوَصْفِ كَوْنِهِ بَاطِلًا، وَوُجُودٌ فِي ذِهْنِ الْكَافِرِ بِوَصْفِ كَوْنِهِ حَقًّا فَهُوَ لِوُجُودِهِ فِي الْخَارِجِ لَا يَصِحُّ نَفْيُهُ لِأَنَّ الذَّوَاتِ لَا تُنْفَى، وَكَذَا مِنْ حَيْثُ وُجُودُهُ فِي ذِهْنِ الْمُؤْمِنِ أَيْ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ مَعْبُودًا بِبَاطِلٍ لَا يُنْفَى إذْ كَوْنُهُ مَعْبُودًا بِبَاطِلٍ أَمْرٌ حَقٌّ لَا يَصِحُّ نَفْيُهُ وَإِلَّا كَانَ كَذِبًا، وَإِنَّمَا يُنْفَى مِنْ حَيْثُ وُجُودُهُ فِي ذِهْنِ الْكَافِرِ بِوَصْفِ كَوْنِهِ مَعْبُودًا بِحَقٍّ، فَالْمَعْبُودَاتُ الْبَاطِلَةُ لَمْ تُنْفَ إلَّا مِنْ حَيْثُ كَوْنُهَا مَعْبُودَةً بِحَقٍّ فَلَمْ يُنْفَ فِي لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ إلَّا الْمَعْبُودُ بِحَقٍّ غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى. اهـ. مَلَوِيٌّ لِأَنَّ الْمَعْبُودَ بِحَقٍّ أَمْرٌ كُلِّيٌّ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ إلَّا اللَّهُ تَعَالَى فَيَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلًا.

قَوْلُهُ: (وَحْدَهُ) أَيْ مُنْفَرِدًا فِي ذَاتِهِ وَقَوْلُهُ: (لَا شَرِيكَ لَهُ) أَيْ فِي صِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَهَذَا أَوْلَى مِنْ جَعْلِ وَحْدَهُ شَامِلًا لِلثَّلَاثَةِ وَلَا شَرِيكَ لَهُ تَأْكِيدًا لِمَا تَقَرَّرَ عِنْدَهُمْ مِنْ أَنَّ التَّأْسِيسَ خَيْرٌ مِنْ التَّأْكِيدِ، لِأَنَّهُ أَفَادَ فَائِدَةً لَمْ تُسْتَفَدْ مِنْ الْأَوَّلِ، فَقَوْلُهُ وَحْدَهُ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ وَأَتَى بِهِ بَعْدَ حَصْرِ الْأُلُوهِيَّةِ تَوْكِيدًا لِتَوْحِيدِ الذَّاتِ وَرَدًّا عَلَى الثَّانَوِيَّةِ. وَقَوْلُهُ: (لَا شَرِيكَ لَهُ) أَيْ لَا مُشَارِكَ لَهُ وَأَتَى بِهِ بَعْدَ مَا تَقَدَّمَهُ مِنْ الْحَصْرِ تَأْكِيدًا لِتَوْحِيدِ الْأَفْعَالِ وَرَدًّا عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْعَبْدَ يَخْلُقُ أَفْعَالَ نَفْسِهِ قَوْلُهُ: (الْمَلِكُ) بِكَسْرِ اللَّامِ وَهُوَ الْمُتَصَرِّفُ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فِي الْمَأْمُورِينَ مَأْخُوذٌ مِنْ الْمُلْكِ بِضَمِّ الْمِيمِ وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ الْمَالِكِ وَهُوَ الْمُتَصَرِّفُ فِي الْأَعْيَانِ الْمَمْلُوكَةِ كَيْفَ شَاءَ مَأْخُوذٌ مِنْ الْمِلْكِ بِكَسْرِ الْمِيمِ، فَبَيْنَهُمَا الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ الْوَجْهِيُّ لِأَنَّ الْمَالِكَ يَتَصَرَّفُ فِي الْأَعْيَانِ الْمَمْلُوكَةِ مَأْمُورَةً أَوْ لَا. وَالْمَلِكُ يَتَصَرَّفُ فِي الْأَعْيَانِ الْمَأْمُورَةِ مَمْلُوكَةً أَوْ لَا اهـ شَيْخُ الْإِسْلَامِ عَلَى الْبَيْضَاوِيِّ. فَيَجْتَمِعَانِ فِي آمِرٍ تَصَرَّفَ فِي الْمَمْلُوكِ لَهُ، وَيَنْفَرِدُ الْمَلِكُ فِي الْآمِرِ الْمُتَصَرِّفِ فِي غَيْرِ الْمَمْلُوكِ لَهُ، وَيَنْفَرِدُ الْمَالِكُ فِي تَصَرُّفِهِ فِي الْأَعْيَانِ الْمَمْلُوكَةِ لَهُ، وَوَجْهُ أَبْلَغِيَّةِ مَلِكٍ دَلَالَتُهُ عَلَى التَّعْظِيمِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَا يُضَافُ إلَّا إلَى الْعُقَلَاءِ.

لَا يُقَالُ مَلِكُ الدَّوَابِّ، وَإِنَّمَا يُقَالُ مَالِكُ. وَقَوْلُهُ: (الْعَلَّامُ) صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ أَيْ كَثِيرُ الْعِلْمِ، وَالْمُرَادُ مِنْ الْكَثْرَةِ الْإِحَاطَةُ وَعُمُومُ الِانْكِشَافِ، فَالْكَثْرَةُ بِالنَّظَرِ لِمُتَعَلِّقَاتِ الْعِلْمِ وَهِيَ الْمَعْلُومَاتُ وَإِلَّا فَعِلْمُ اللَّهِ وَاحِدٌ.

[مَبْحَثٌ فِي الْمُبَالَغَةِ النَّحْوِيَّةِ وَالْبَيَانِيَّةِ]

ِ وَالْمُرَادُ مِنْ الْمُبَالَغَةِ هُنَا الْمُبَالَغَةُ النَّحْوِيَّةُ وَهِيَ مُطْلَقُ الْكَثْرَةِ لَا الْبَيَانِيَّةُ وَهِيَ إثْبَاتُك لِلشَّيْءِ زِيَادَةً عَمَّا يَسْتَحِقُّهُ، وَكَذَا يُقَالُ فِي جَمِيعِ صِفَاتِهِ تَعَالَى الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (مُحَمَّدًا) بَدَلٌ مِنْ نَبِيِّنَا لَا مِنْ سَيِّدِنَا لِأَنَّهُ لَا يُفْصَلُ بَيْنَ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ مِنْهُ بِعَطْفِ النَّسَقِ قَوْلُهُ: (صَلَّى اللَّهُ إلَخْ) جُمْلَةٌ اعْتِرَاضِيَّةٌ بَيْنَ اسْمِ أَنَّ وَخَبَرِهَا (قَوْلُهُ: عَبْدُهُ) قَدَّمَهُ امْتِثَالًا لِمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ وَهُوَ قَوْلُهُ: «وَلَكِنْ قُولُوا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ» . وَلِأَنَّ الْعُبُودِيَّةَ أَشْرَفُ أَوْصَافِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَقَدْ دُعِيَ بِهَا فِي أَشْرَفِ الْمَقَامَاتِ فَقَالَ تَعَالَى: {مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا - الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ - نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان: ٢٣ - ١] {أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء: ١] وَلَيْسَ لِلْمُؤْمِنِ صِفَةٌ أَتَمُّ وَلَا أَشْرَفُ مِنْ الْعُبُودِيَّةِ لِأَنَّهَا غَايَةُ التَّذَلُّلِ.

وَلَقَدْ أَحْسَنَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي نَظْمِهِ حَيْثُ قَالَ:

وَمِمَّا زَادَنِي شَرَفًا وَتِيهًا ... وَكِدْت بِأَخْمَصِي أَطَأُ الثُّرَيَّا

دُخُولِي تَحْتَ قَوْلِك يَا عِبَادِي ... وَأَنْ صَيَّرْت أَحْمَدَ لِي نَبِيَّا

وَقَدْ خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا مَلَكًا وَنَبِيًّا عَبْدًا فَاخْتَارَ الثَّانِيَ (قَوْلُهُ: وَرَسُولُهُ) أَيْ إلَى الْإِنْسِ وَالْجِنِّ بَلْ وَإِلَى كَافَّةِ الْخَلْقِ مِنْ مَلَكٍ وَحَجَرٍ وَمَدَرٍ بَلْ وَإِلَى نَفْسِهِ، وَقَوْلُ م ر: لَمْ يُرْسَلْ إلَى الْمَلَائِكَةِ أَيْ إرْسَالَ تَكْلِيفٍ فَلَا يُنَافِي التَّشْرِيفَ.

وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ وَالشَّبْشِيرِيُّ عَلَى الْأَرْبَعِينَ: الْحَقُّ تَكْلِيفُهُمْ بِالطَّاعَاتِ الْعَمَلِيَّةِ كَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ.

وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمْ يُرْسَلْ إلَى الْجِنِّ غَيْرُ نَبِيِّنَا، وَإِيمَانُهُمْ بِالتَّوْرَاةِ كَانَ تَبَرُّعًا مِنْهُمْ وَسُلَيْمَانُ كَانَ حَاكِمًا فِيهِمْ لَا رَسُولًا إلَيْهِمْ. اهـ. مَدَابِغِيٌّ. وَقَوْلُهُ: لَمْ يُرْسَلْ إلَى الْجِنِّ غَيْرُ نَبِيِّنَا أَيْ لَا مِنْهُمْ وَلَا مِنْ غَيْرِهِمْ، وَالْبُلُوغُ الشَّرْعِيُّ أَيْ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّكْلِيفُ لَا

<<  <  ج: ص:  >  >>