عَبَّرَ بِهَا دُونَ الْجِرَاحِ لِتَشْمَلَهُ وَالْقَطْعَ وَالْقَتْلَ وَنَحْوَهُمَا مِمَّا يُوجِبُ حَدًّا أَوْ تَعْزِيرًا وَهُوَ حَسَنٌ وَهِيَ جَمْعُ جِنَايَةٍ وَجُمِعَتْ وَإِنْ كَانَتْ مَصْدَرًا لِتَنَوُّعِهَا كَمَا سَيَأْتِي إلَى عَمْدٍ وَخَطَأٍ وَشِبْهِ عَمْدٍ.
وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَبْلَ الْإِجْمَاعِ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: ١٧٨] وَأَخْبَارٌ كَخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ: «اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ. قِيلَ: وَمَا هُنَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الشِّرْكُ بِاَللَّهِ تَعَالَى، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بِالْحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ» وَقَتْلُ الْآدَمِيِّ عَمْدًا بِغَيْرِ حَقٍّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ بَعْدَ الْكُفْرِ.
فَقَدْ «سُئِلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ: أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ. قِيلَ: ثُمَّ أَيٌّ قَالَ: أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ مَخَافَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَتَصِحُّ تَوْبَةُ الْقَاتِلِ عَمْدًا، لِأَنَّ الْكَافِرَ تَصِحُّ تَوْبَتُهُ فَهَذَا أَوْلَى، وَلَا يَتَحَتَّمُ عَذَابُهُ بَلْ هُوَ
ــ
[حاشية البجيرمي]
يَحْتَمِلُ الْوُجُوبَ حَيْثُ ظَهَرَتْ الْمَصْلَحَةُ فِي قَتْلِهِ.
قَوْلُهُ: (لِتَشْمَلَهُ) أَيْ الْجِرَاحَ وَذَكَّرَ الضَّمِيرَ وَكَانَ حَقُّهُ أَنْ يَقُولَ: لِتَشْمَلَهَا أَيْ الْجِرَاحَ، لِأَنَّ هَيْئَةَ الْجَمْعِ مُؤَنَّثَةٌ، لِأَنَّ جِرَاحَ جَمْعُ جَرْحٍ كَسَهْمٍ وَسِهَامٍ وَكَلْبٍ وَكِلَابٍ.
وَيُجَابُ بِأَنَّهُ ذَكَّرَ بِاعْتِبَارِ الْمَذْكُورِ، وَقَوْلُهُ: وَالْقَطْعَ مِنْ ذِكْرِ الْخَاصِّ بَعْدَ الْعَامِّ، لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْجِرَاحِ، وَالْجِرَاحُ جَمْعُ جَرْحٍ بِالْفَتْحِ أَوْ الضَّمِّ أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِ، الْخُلَاصَةَ:
فِعْلٌ وَفِعْلَةٌ فِعَالٌ لَهُمَا
إلَى قَوْلِهِ
وَفَعْلٌ مَعَ فُعْلٍ فَاقْبَلْ
قَوْلُهُ: (مِمَّا يَجِبُ حَدًّا) لَا يَخْفَى أَنَّ ذِكْرَ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ بِالْجِنَايَةِ مَا يَعُمُّ الْجِنَايَةَ عَلَى الْأَعْرَاضِ كَالْقَذْفِ وَهُوَ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ فَلَوْ فَسَّرَ نَحْوَهُمَا بِنَحْوِ الْمُوضِحَةِ وَالْهَاشِمَةِ لَكَانَ أَوْلَى فَتَأَمَّلْ م د.
وَقَوْلُهُ: كَالْقَذْفِ أَيْ وَالتَّعْزِيرِ كَوَطْءِ الزَّوْجَةِ فِي دُبُرِهَا وَلَوْ قَالَ الْمُحَشِّي وَلَوْ فَسَّرَ نَحْوَهُمَا بِإِذْهَابِ الْمَعَانِي لَكَانَ أَوْلَى، لِأَنَّ الْمُوضِحَةَ وَالْهَاشِمَةَ دَاخِلَانِ فِي الْجِرَاحِ فَتَأَمَّلْ.
قَوْلُهُ: (أَوْ تَعْزِيرًا) كَمَا إذَا قَذَفَ صَغِيرَةً لَا تُطِيقُ الْوَطْءَ.
قَوْلُهُ: (وَإِنْ كَانَتْ مَصْدَرًا) أَيْ وَالْمَصْدَرُ لَا يُثَنَّى وَلَا يُجْمَعُ إذَا كَانَ لِغَيْرِ تَوْكِيدٍ كَمَا قَالَ ابْنُ مَالِكٍ:
وَمَا لِتَوْكِيدٍ فَوَحِّدْ أَبَدَا ... وَثَنِّ وَاجْمَعْ غَيْرَهُ وَأَفْرِدَا
قَوْلُهُ: (وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَبْلَ الْإِجْمَاعِ إلَخْ) فِيهِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَا تَدُلُّ إلَّا عَلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي الْقَتْلِ فَقَطْ مَعَ أَنَّ الْمُرَادَ الِاسْتِدْلَال عَلَى الْجِنَايَاتِ الشَّامِلَةِ لِلْقَتْلِ وَالْجَرْحِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَالدَّلِيلُ أَخَصُّ مِنْ الْمُدَّعَى شَيْخُنَا، وَعِبَارَةُ ق ل: وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ أَيْ فِي الْجِنَايَاتِ أَيْ فِي مَجْمُوعِهَا؛ إذْ لَيْسَ فِي الْآيَةِ إلَّا مَا فِيهِ قِصَاصٌ مِنْ قَتْلٍ أَوْ قَطْعٍ وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ إلَّا الْأَوَّلُ اهـ.
قَوْلُهُ: (اجْتَنِبُوا) أَيْ اُتْرُكُوا، وَالْمُوبِقَاتُ الْمُهْلِكَاتُ بِالْعَذَابِ وَالْعِقَابِ وَهُوَ بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ أَوْبَقَتْهُ الذُّنُوبُ أَهْلَكَتْهُ اهـ مِصْبَاحٌ.
قَوْلُهُ: (وَالسِّحْرُ) سُمِّيَ السِّحْرُ سِحْرًا لِخَفَاءِ سَبَبِهِ وَلِأَنَّهُ يُفْعَلُ فِي خُفْيَةٍ وَهُوَ لُغَةً صَرْفُ الشَّيْءِ عَنْ وَجْهِهِ تَقُولُ الْعَرَبُ مَا سَحَرَك عَنْ كَذَا أَيْ مَا صَرَفَك عَنْهُ فَكَأَنَّ السَّاحِرَ لَمَّا رَأَى الْبَاطِلَ فِي صُورَةِ الْحَقِّ فَقَدْ سَحَرَ الشَّيْءَ عَنْ وَجْهِهِ أَيْ صَرَفَهُ هَذَا أَصْلُهُ أَيْ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةُ وَأَمَّا حَقِيقَتُهُ فَقَدْ قِيلَ إنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ التَّمْوِيهِ وَالتَّخَيُّلِ وَمَذْهَبُ السُّنَّةِ أَنَّ لَهُ وُجُودًا وَحَقِيقَةً وَقِيلَ إنَّ السِّحْرَ يُؤَثِّرُ فِي قَلْبِ الْأَعْيَانِ فَيَجْعَلُ الْإِنْسَانَ عَلَى صُورَةِ الْحِمَارِ وَالْحِمَارَ عَلَى صُورَةِ الْكَلْبِ وَقَدْ يَطِيرُ السَّاحِرُ فِي الْهَوَاءِ وَهَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ عِنْدَ السُّنَّةِ وَرُوِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ السِّحْرُ يَخْبِلُ وَيُمْرِضُ وَقَدْ يَقْتُلُ حَتَّى أَوْجَبَ الْقِصَاصَ عَلَى مَنْ قَتَلَ بِهِ
وَفِي حَاشِيَةِ الرَّحْمَانِيِّ عَلَى الْمُصَنِّفِ شَارِحِ السَّنُوسِيَّةِ السِّحْرُ لُغَةً صَرْفُ الشَّيْءِ عَنْ وَجْهِهِ وَاصْطِلَاحًا مُزَاوَلَةُ النُّفُوسِ الْخَبِيثَةِ أَفْعَالًا وَأَقْوَالًا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا أُمُورٌ خَارِقَةٌ لِلْعَادَةِ بِتَأْثِيرِ اللَّهِ عَادَةً وَلَهُ حَقِيقَةٌ عِنْدَنَا وَاعْتِقَادُ إبَاحَتِهِ كُفْرٌ وَلَا يَظْهَرُ إلَّا عَلَى يَدِ فَاسِقٍ وَيَلْزَمُ بِهِ الْقِصَاصُ اهـ بِحُرُوفِهِ
قَوْلُهُ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ أَيْ حَرَّمَ اللَّهُ قَتْلَهَا بِكُلِّ شَيْءٍ إلَّا بِالْحَقِّ فَلَمْ يُحَرِّمْهُ بَلْ جَوَّزَهُ وَالْحَقُّ يَشْمَلُ الْقِصَاصَ وَالْحَدَّ
قَوْلُهُ وَالتَّوَلِّي أَيْ الْفِرَارُ وَيَوْمَ الزَّحْفِ أَيْ يَوْمَ زَحْفِ الْكُفَّارِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَالْمُرَادُ التَّوَلِّي مِنْ غَيْرِ مُقْتَضٍ لَهُ كَزِيَادَةِ الْعَدُوِّ عَلَى ضِعْفِنَا
قَوْلُهُ