لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَوَّزَهُ بِهَا حَيْثُ فَعَلَهُ كَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَأَمَرَ بِهِ بِقَوْلِهِ فِيمَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ: «وَلْيَسْتَنْجِ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ» الْمُوَافِقُ لَهُ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ مِنْ نَهْيِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الِاسْتِنْجَاءِ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ.
وَيَجِبُ فِي الِاسْتِنْجَاءِ بِالْحَجَرِ أَمْرَانِ أَحَدُهُمَا: ثَلَاثُ مَسَحَاتٍ بِأَنْ يَعُمَّ بِكُلِّ مَسْحَةٍ الْمَحَلَّ وَلَوْ كَانَتْ بِأَطْرَافِ حَجَرٍ لِخَبَرِ مُسْلِمٍ «عَنْ سَلْمَانَ: نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ» وَفِي مَعْنَاهَا ثَلَاثَةُ أَطْرَافِ حَجَرٍ، بِخِلَافِ رَمْيِ الْجِمَارِ، فَلَا يَكْفِي حَجَرٌ لَهُ ثَلَاثَةُ أَطْرَافِ عَنْ ثَلَاثِ رَمَيَاتٍ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ ثَمَّ عَدَدُ الرَّمْيِ، وَهَاهُنَا عَدَدُ الْمَسَحَاتِ، وَلَوْ غَسَلَ الْحَجَرَ وَجَفَّ جَازَ لَهُ اسْتِعْمَالُهُ ثَانِيًا كَدَوَاءٍ دُبِغَ بِهِ. ثَانِيهِمَا: نَقَاءُ الْمَحَلِّ كَمَا قَالَ: (يُنَقِّي بِهِنَّ) أَيْ بِالْأَحْجَارِ أَوْ مَا فِي مَعْنَاهَا (الْمَحَلَّ) فَإِنْ لَمْ يُنَقَّ بِالثَّلَاثِ وَجَبَ الْإِنْقَاءُ بِرَابِعٍ فَأَكْثَرَ إلَى أَنْ لَا يَبْقَى إلَّا أَثَرٌ لَا يُزِيلُهُ إلَّا الْمَاءُ أَوْ صِغَارُ الْخَزَفِ. وَسُنَّ بَعْدَ الْإِنْقَاءِ إنْ لَمْ يَحْصُلْ يُوتِرُ الْإِيتَارَ بِوَاحِدَةٍ كَأَنْ حَصَلَ بِرَابِعَةٍ فَيَأْتِي بِخَامِسَةٍ لِمَا رَوَى الشَّيْخَانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا اسْتَجْمَرَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَجْمِرْ وِتْرًا» وَصَرَفَهُ عَنْ الْوُجُوبِ رِوَايَةُ أَبِي دَاوُد وَهِيَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ، مَنْ فَعَلَ فَقَدْ أَحْسَنَ وَمَنْ لَا فَلَا حَرَجَ» .
ــ
[حاشية البجيرمي]
وَالثَّالِثَ لِعَدَمِ جَوَازِ النَّقْصِ عَنْ الثَّلَاثِ كَمَا قَالَهُ الْعَلَّامَةُ ق ل. وَقَالَ شَيْخُنَا الْعَشْمَاوِيُّ: إنَّمَا جَمَعَ بَيْنَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ خُصُوصِيَّةٌ لَهُ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى أَنَّ فِعْلَهُ دَلَّ عَلَى جَوَازِهِ لَا أَنَّهُ جَوَّزَهُ بِالْقَوْلِ. وَقَوْلُهُ: (وَأَمَرَ بِهِ) إلَخْ. أَتَى بِهِ؛ لِأَنَّهُ عَامٌّ لَنَا وَلَهُ، إلَّا أَنَّهُ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ عَدَمُ الْإِجْزَاءِ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْجَارِ؛ لِأَنَّ الْعَدَدَ لَا مَفْهُومَ لَهُ، فَلِذَا أَتَى بِالثَّالِثِ.
قَوْلُهُ: (جَوَّزَهُ) أَيْ شَرَعَهُ فَلَا يُنَافِي أَنَّهُ وَاجِبٌ.
قَوْلُهُ: (حَيْثُ فَعَلَهُ) أَيْ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَهُ فَهِيَ لِلتَّعْلِيلِ.
قَوْلُهُ: (بِقَوْلِهِ) الْبَاء بِمَعْنَى فِي، وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِأَمْرٍ فَلَا يَلْزَمُ تَعَلُّقُ حَرْفَيْ جَرٍّ بِمَعْنَى وَاحِدٍ بِعَامِلٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّهُمَا مُخْتَلِفَانِ. وَفِي شَرْحِ السَّعْدِ عَلَى الْبُرْدَةِ تَخْصِيصُ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ بِمَا إذَا لَمْ يَصِحَّ إبْدَالُ الثَّانِي مِنْ الْأَوَّلِ، فَإِنْ صَحَّ فَلَا امْتِنَاعَ كَمَا هُنَا، فَيَصِحُّ التَّرْكِيبُ وَلَوْ بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ كَوْنِ الثَّانِيَةِ بِمَعْنَى فِي، أَوْ يُقَالُ إنَّ الْأَوَّلَ تَعَلَّقَ بِهِ وَهُوَ مُطْلَقٌ وَالثَّانِي وَهُوَ مُقَيَّدٌ.
قَوْلُهُ: (أَمْرَانِ) عَدَّ فِي الْمَنْهَجِ قَوْلَهُ بِأَنْ يَعُمَّ شَرْطًا فَتَكُونُ الشُّرُوطُ ثَلَاثَةً.
قَوْلُهُ: (بِأَطْرَافِ حَجَرٍ) فَإِنْ لَمْ يَتَلَوَّثُ فِي الثَّانِيَةِ فَتَجُوزُ هِيَ وَالثَّالِثَةُ بِطَرَفٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا خَفَّفَ النَّجَاسَةَ فَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الِاسْتِعْمَالُ بِخِلَافِ الْمَاءِ وَلِكَوْنِ التُّرَابِ بَدَلَهُ أُعْطِيَ حُكْمَهُ حَجّ. قَوْلُهُ: (عَنْ سَلْمَانَ) أَيْ الْفَارِسِيِّ، قِيلَ لَهُ مَنْ أَبُوك يَا سَلْمَانَ؟ فَقَالَ أَبِي الْإِسْلَامُ. وَفِي الْحَدِيثِ: «إنَّ الْجَنَّةَ لَتَشْتَاقُ إلَى سَلْمَانَ» وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَقِّهِ: «سَلْمَانُ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ» .
قَوْلُهُ: (نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ إلَخْ) وَصِيغَةُ النَّهْيِ لَا يَسْتَنْجِ أَحَدُكُمْ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ. اهـ.
قَوْلُهُ: (يُنَقِّي بِهِنَّ الْمَحَلَّ) فَلَوْ شَكَّ بَعْدَ الِاسْتِنْجَاءِ هَلْ مَسَحَ ثَلَاثًا أَوْ أَقَلَّ، أَوْ هَلْ وُجِدَتْ شُرُوطُهُ أَوْ لَا لَمْ يَضُرَّ عَلَى الْمُعْتَمَدِ كَمَا فِي ع ش. وَقَالَ الشَّوْبَرِيُّ: يَضُرُّ؛ لِأَنَّ الِاسْتِنْجَاءَ بِالْحَجَرِ رُخْصَةٌ وَلَا يُصَارُ إلَيْهَا إلَّا بِيَقِينٍ، قَالَ شَيْخُنَا ح ف: مَعْنَاهُ أَنَّهُ إذَا شَكَّ فِي شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِ الرُّخْصَةِ قَبْلَ الْإِقْدَامِ عَلَيْهَا لَا يَجُوزُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ الرُّخْصَةَ لَا يُصَارُ إلَيْهَا إلَخْ. فَإِذَا شَكَّ قَبْلَ الِاسْتِنْجَاءِ بِالْحَجَرِ هَلْ هَذَا الْحَجَرُ وُجِدَتْ فِيهِ شُرُوطُ الِاسْتِنْجَاءِ أَوْ لَا؟ لَا يَجُوزُ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَى الِاسْتِنْجَاءِ بِهِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ الرُّخْصَةُ لَا يُصَارُ إلَيْهَا إلَّا بِيَقِينٍ، وَيُمْكِنُ حَمْلُ كَلَامِ الشَّوْبَرِيِّ عَلَى مَا إذَا كَانَ الشَّكُّ قَبْلَ الِاسْتِنْجَاءِ فَوَافَقَ مَا قَالَهُ ح ف. وَلَا يُخَالِفُ كَلَامَ ع ش.
قَوْلُهُ: (أَيْ بِالْأَحْجَارِ) خَصَّ الْحَجَرَ بِذِكْرِ الْإِنْقَاءِ مَعَهُ لِكَوْنِ الْإِنْقَاءِ بِالْمَاءِ أَمْرُهُ ظَاهِرٌ ع ش.
قَوْلُهُ: (فَإِنْ لَمْ يُنَقِّ) بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْقَافِ أَيْ الشَّخْصُ وَيَصِحُّ فَتْحُ الْيَاءِ وَالْقَافِ أَيْ الْمَحَلِّ.
قَوْلُهُ: (إلَى أَنْ لَا يَبْقَى إلَّا أَثَرٌ) أَيْ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْفُوٌّ عَنْهُ، وَهَذَا تَصْرِيحٌ مِنْهُمْ بِأَنَّهُ لَا تَجِبُ إزَالَةُ هَذَا الْأَثَرِ بِصِغَارِ الْخَزَفِ، وَعِبَارَةُ ابْنِ حَجَرٍ وَبَقَاءُ مَا لَا يُزِيلُهُ إلَّا صِغَارُ الْخَزَفِ مَعْفُوٌّ عَنْهُ، وَلَوْ خَرَجَ هَذَا الْقَدْرُ ابْتِدَاءً وَجَبَ الِاسْتِنْجَاءُ مِنْهُ، وَفَرْقٌ مَا بَيْنَ الِابْتِدَاءِ وَالِانْتِهَاءِ، وَلَا يَتَعَيَّنُ الِاسْتِنْجَاءُ بِصِغَارِ الْخَزَفِ الْمُزِيلَةِ بَلْ يَكْفِي إمْرَارُ الْحَجَرِ، وَإِنْ لَمْ يَتَلَوَّثْ كَمَا اكْتَفَى بِهِ فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ حَيْثُ لَمْ يَتَلَوَّثْ فِي الثَّانِيَةِ ذَكَرَهُ ح ل وع ش عَلَى م ر.
فَإِنْ قُلْت: إنَّ فِي الْعِبَارَةِ طُولًا وَهَلَّا اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ إلَى أَنْ يَبْقَى أَثَرٌ لَا يُزِيلُهُ إلَخْ؟ . أَجَابَ الْعَلَّامَةُ الْإِطْفِيحِيُّ نَقْلًا عَنْ شَيْخِهِ الْبَابِلِيِّ: بِأَنَّهُ لَوْ اقْتَصَرَ عَلَى ذَلِكَ لَتَوَهَّمَ أَنَّ بَقَاءَ هَذَا الْأَثَرِ مَطْلُوبٌ فَتَأَمَّلْ. .