الْجَنَّةِ. فَأَمَّا الَّذِي فِي الْجَنَّةِ فَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ وَقَضَى بِهِ، وَاَللَّذَانِ فِي النَّارِ رَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَجَارَ فِي الْحُكْمِ، وَرَجُلٌ قَضَى لِلنَّاسِ عَلَى جَهْلٍ» وَالْقَاضِي الَّذِي يَنْفُذُ حُكْمُهُ، هُوَ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي وَالثَّالِثُ لَا اعْتِبَارَ بِحُكْمِهِمَا. وَتَوَلِّي الْقَضَاءِ فَرْضُ كِفَايَةٍ فِي حَقِّ الصَّالِحِينَ لَهُ فِي نَاحِيَةٍ. أَمَّا تَوْلِيَةُ الْإِمَامِ لِأَحَدِهِمْ فَفَرْضُ عَيْنٍ عَلَيْهِ. فَمَنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ فِي نَاحِيَةٍ لَزِمَهُ طَلَبُهُ، وَلَزِمَهُ قَبُولُهُ
(وَلَا يَجُوزُ) وَلَا يَصِحُّ (أَنْ يَلِيَ الْقَضَاءَ) الَّذِي هُوَ الْحُكْمُ بَيْنَ النَّاسِ (إلَّا مَنْ اسْتَكْمَلَ فِيهِ) بِمَعْنَى
ــ
[حاشية البجيرمي]
وَالْعَارِفُ إمَّا أَنْ يَحْكُمَ بِالْحَقِّ أَوْ يَعْدِلَ عَنْهُ، فَإِنْ عَرَفَ الْحَقَّ وَعَمِلَ بِهِ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ، وَإِنْ عَرَفَهُ وَحَكَمَ بِالْبَاطِلِ أَوْ لَمْ يَعْرِفْ الْحَقَّ مِنْ الْبَاطِلِ فَقَضَى عَلَى جَهْلٍ فَهُمَا فِي النَّارِ، وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ بَيَانُ فَضِيلَةِ مَنْ دَخَلَ فِي الْقَضَاءِ عَارِفًا بِالْحَقِّ فَقَضَى بِهِ. وَالْحَثُّ عَلَى تَرْكِ الدُّخُولِ فِيهِ لِعِظَمِ دُخُولِهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ أَنِّي مَا اخْتَرْته وَلَا اسْتَحْسَنْته بَلْ امْتَنَعْتُ مِنْ الدُّخُولِ فِيهِ فِي زَمَنِ سَبْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا مَعَ الطَّلَبِ الْحَثِيثِ وَمَعَ قَوْلِ السُّلْطَانِ: وَاَللَّهِ وَاَللَّهِ وَاَللَّهِ إنْ قَبِلْته رَكِبْت مَعَك إلَى بَيْتِك فَأَعَانَنِي اللَّهُ عَلَى تَرْكِهِ ثُمَّ طُلِبْتُ فِي زَمَنٍ آخَرَ فَغَلَبَ اخْتِيَارُ رَبِّي عَلَى اخْتِيَارِي فَدَخَلْت فِيهِ إلَى أَنَّ قَدَّرَ اللَّهُ عَلَيَّ بِمَا يَتَضَمَّنُ خَيْرًا إنْ شَاءَ اللَّهُ فَلَهُ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. ذَكَرَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ فِي شَرْحِ الْأَعْلَامِ. وَكَانَ الْقُضَاةُ فِي بَنِي إسْرَائِيلَ ثَلَاثَةً فَمَاتَ أَحَدُهُمْ فَوُلِّيَ مَكَانَهُ غَيْرُهُ ثُمَّ قَضَوْا مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقْضُوا ثُمَّ بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ مَلَكًا يَمْتَحِنُهُمْ فَوَجَدَ رَجُلًا يَسْقِي بَقَرَةً عَلَى مَاءٍ وَخَلْفَهَا عِجْلَةٌ فَدَعَاهَا الْمَلَكُ وَهُوَ رَاكِبٌ فَرَسًا فَتَبِعَتْهَا الْعِجْلَةُ فَتَخَاصَمَا فَقَالَا بَيْنَنَا الْقَاضِي فَجَاءَا إلَى الْقَاضِي الْأَوَّلِ فَدَفَعَ إلَيْهِ الْمَلَكُ دُرَّةً كَانَتْ مَعَهُ وَقَالَ لَهُ: اُحْكُمْ بِأَنَّ الْعِجْلَةَ لِي قَالَ: بِمَاذَا؟ قَالَ: أَرْسِلْ الْفَرَسَ وَالْبَقَرَةَ وَالْعِجْلَةَ فَإِنْ تَبِعَتْ الْفَرَسَ فَهِيَ لِي فَأَرْسَلَهَا فَتَبِعَتْ الْفَرَسَ فَحَكَمَ لَهُ بِهَا وَأَتَيَا إلَى الْقَاضِي الثَّانِي فَحَكَمَ لَهُ كَذَلِكَ وَأَخَذَ دُرَّةً وَأَمَّا الْقَاضِي الثَّالِثُ فَدَفَعَ لَهُ الْمَلَكُ دُرَّةً وَقَالَ لَهُ: اُحْكُمْ لِي بِهَا فَقَالَ: إنِّي حَائِضٌ فَقَالَ الْمَلَكُ: سُبْحَانَ اللَّهِ أَيَحِيضُ الذَّكَرُ فَقَالَ لَهُ الْقَاضِي: سُبْحَانَ اللَّهِ أَتَلِدُ الْفَرَسُ بَقَرَةً وَحَكَمَ بِهَا لِصَاحِبِهَا ذَكَرَهُ الشَّبْرَخِيتِيُّ عَلَى الْأَرْبَعِينَ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ وَلِيَ قَضَاءَ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ غَلَبَ عَدْلُهُ جَوْرَهُ فَلَهُ الْجَنَّةُ وَإِنْ غَلَبَ جَوْرُهُ عَدْلَهُ فَلَهُ النَّارُ» أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «عَجَّ حَجَرٌ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَقَالَ: إلَهِي وَسَيِّدِي عَبَدْتُك كَذَا وَكَذَا سَنَةً ثُمَّ جَعَلَتْنِي فِي أُسِّ كَنِيفٍ فَقَالَ: أَمَا تَرْضَى أَنْ عَدَلْت بِك عَنْ مَجَالِسِ الْقُضَاةِ» رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ. قَوْلُهُ: (وَتَوَلِّي الْقَضَاءِ فَرْضُ كِفَايَةٍ) بَلْ هُوَ أَفْضَلُ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ حَتَّى ذَهَبَ الْغَزَالِيُّ إلَى تَفْضِيلِهِ عَلَى الْجِهَادِ لِلْإِجْمَاعِ مَعَ الِاضْطِرَارِ إلَيْهِ لِأَنَّ طِبَاعَ الْبَشَرِ مَجْبُولَةٌ عَلَى النِّظَامِ وَقَلَّ مَنْ يُنْصِفُ مِنْ نَفْسِهِ وَالْإِمَامُ الْأَعْظَمُ مُشْتَغِلٌ بِمَا هُوَ أَهَمُّ مِنْهُ فَوَجَبَ مَنْ يَقُومُ بِهِ شَرْحُ م ر.
وَاعْلَمْ أَنَّ تَوْلِيَةَ الْقَضَاءِ تَعْتَرِيهِ الْأَحْكَامُ إلَّا الْإِبَاحَةَ فَيَجِبُ إذَا تَعَيَّنَ فِي النَّاحِيَةِ وَيَنْدُبُ إنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ وَكَانَ أَفْضَلَ مِنْ غَيْرِهِ فَيُسَنُّ لَهُ حِينَئِذٍ طَلَبُهُ وَقَبُولُهُ وَيُكْرَهُ إنْ كَانَ مَفْضُولًا وَلَمْ يَمْتَنِعْ الْأَفْضَلُ وَيَحْرُمُ بِعَزْلِ صَالِحٍ وَلَوْ مَفْضُولًا وَتَبْطُلُ عَدَالَةُ الطَّالِبِ وَعِبَارَةُ الرَّوْضِ وَشَرْحُهُ وَحَرُمَ عَلَى الصَّالِحِ لِلْقَضَاءِ طَلَبٌ لَهُ وَبَذْلُ مَالٍ لِعَزْلِ قَاضٍ صَالِحٍ لَهُ وَلَوْ كَانَ دُونَهُ وَبَطَلَتْ بِذَلِكَ عَدَالَتُهُ فَلَا تَصِحُّ تَوْلِيَتُهُ وَالْمَعْزُولُ بِهِ عَلَى قَضَائِهِ، حَيْثُ لَا ضَرُورَةَ لِأَنَّ الْعَزْلَ بِالرِّشْوَةِ حَرَامٌ وَتَوْلِيَةُ الْمُرْتَشِي لِلرَّاشِي حَرَامٌ اهـ بِحُرُوفِهِ. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ وَالْحَاكِمُ «مَنْ اسْتَعْمَلَ عَامِلًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ غَيْرَهُ أَفْضَلُ مِنْهُ» وَفِي رِوَايَةٍ «رَجُلًا عَلَى عِصَابَةٍ وَفِي تِلْكَ الْعِصَابَةِ مَنْ هُوَ أَرْضَى لِلَّهِ مِنْهُ فَقَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ» اهـ وَدَخَلَ فِيهِ كُلُّ مَنْ تَوَلَّى أَمْرًا مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ شَرْعِيًّا كَنَصْبِ مَشَايِخِ الْأَسْوَاقِ وَالْبُلْدَانِ وَنَحْوِهَا اهـ قَوْلُهُ: (فِي حَقِّ الصَّالِحِينَ) الْمُرَادُ بِالْجَمْعِ مَا فَوْقَ الْوَاحِدِ لِأَنَّهُ فِي حَقِّ الْوَاحِدِ فَرْضُ عَيْنٍ.
قَوْلُهُ: (فِي نَاحِيَةٍ) أَيْ مَسَافَةَ عَدْوَى دُونَ مَا زَادَ فَلَا يَلْزَمُهُ قَبُولُهُ وَلَا طَلَبُهُ فِيهِ لِأَنَّ عَمَلَ الْقَضَاءِ لَا آخِرَ لَهُ فَفِيهِ تَعْذِيبٌ لِمَا فِيهِ مِنْ تَرْكِ الْوَطَنِ بِالْكُلِّيَّةِ نَعَمْ إنْ عَيَّنَهُ الْإِمَامُ لِذَلِكَ الْمَحَلِّ الْبَعِيدِ وَلَمْ يَكُنْ بِهِ وَلَا بِقُرْبِهِ مَنْ يَصْلُحُ لَزِمَهُ قَبُولُهُ، امْتِثَالًا لِأَمْرِ الْإِمَامِ.
قَوْلُهُ: (لَزِمَهُ طَلَبُهُ) وَلَوْ بِبَذْلِ مَالٍ وَإِنْ حَرُمَ أَخْذُهُ مِنْهُ فَالْإِعْطَاءُ جَائِزٌ وَالْأَخْذُ حَرَامٌ وَالْمُرَادُ بَذْلُ مَالٍ زَائِدٍ عَلَى مَا يَكْفِيهِ يَوْمَهُ وَلَيْلَتَهُ فِيمَا يَظْهَرُ حَجّ وم ر قَالَ ع ش عَلَى م ر: وَظَاهِرُهُ وَإِنْ كَثُرَ الْمَالُ وَلَعَلَّ الْفَرْقَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي صَرَّحُوا بِسُقُوطِ الْوُجُوبِ حَيْثُ طُلِبَ مِنْهُ مَالٌ وَإِنْ قَلَّ أَنَّ الْقَضَاءَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ
مَصْلَحَةٌ
عَامَّةٌ لِلْمُسْلِمِينَ فَوَجَبَ بَذْلُهُ لِلْقِيَامِ بِتِلْكَ الْمَصْلَحَةِ وَلَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute