قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: لَا تَقْرَبُوا مَوَاضِعَ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا عُبُورُ سَبِيلٍ، بَلْ فِي مَوَاضِعِهَا وَهُوَ الْمَسْجِدُ وَنَظِيرُهُ قَوْله تَعَالَى: {لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ} [الحج: ٤٠] وَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا أُحِلُّ الْمَسْجِدَ لِحَائِضٍ وَلَا جُنُبٍ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَعَنْ أَبَوَيْهَا. وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: إنَّهُ حَسَنٌ وَخَرَجَ بِالْمُكْثِ وَالتَّرَدُّدِ الْعُبُورُ لِلْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَكَمَا لَا يَحْرُمُ لَا يُكْرَهُ إنْ كَانَ لَهُ فِيهِ غَرَضٌ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ الْمَسْجِدُ أَقْرَبَ طَرِيقَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ غَرَضٌ كُرِهَ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا، وَحَيْثُ عَبَرَ لَا يُكَلَّفُ الْإِسْرَاعَ فِي الْمَشْيِ بَلْ يَمْشِي عَلَى الْعَادَةِ، وَبِالْمُسْلِمِ الْكَافِرُ فَإِنَّهُ يُمَكَّنُ مِنْ الْمُكْثِ فِي الْمَسْجِدِ عَلَى الْأَصَحِّ فِي
ــ
[حاشية البجيرمي]
بِالْوُضُوءِ وَلَوْ لِغَيْرِ عُذْرٍ، وَيَجِبُ فِي الْوُضُوءِ عِنْدَهُ الْمَضْمَضَةُ وَالِاسْتِنْشَاقُ وَمَسْحُ جَمِيعِ الرَّأْسِ، وَالدَّلْكُ وَالْمُوَالَاةُ فَوَاجِبَاتُ الْوُضُوءِ عِنْدَهُ عَشَرَةٌ فَرَاجِعْهُ. وَيَجُوزُ النَّوْمُ فِيهِ لِغَيْرِ الْجُنُبِ وَلَوْ لِغَيْرِ أَعْزَبَ، لَكِنْ مَعَ الْكَرَاهَةِ. نَعَمْ إنْ ضَيَّقَ عَلَى الْمُصَلِّينَ أَوْ شَوَّشَ عَلَيْهِمْ حَرُمَ، وَيَحْرُمُ إدْخَالُ النَّجَاسَةِ فِيهِ إلَّا إذَا كَانَتْ بِنَعْلِهِ لِلضَّرُورَةِ، وَكَذَا الْبَوْلُ فِيهِ فِي إنَاءٍ وَنَحْوِهِ، وَالْحِجَامَةُ وَالْفَصْدُ فِيهِ خِلَافُ الْأَوْلَى لِانْتِهَاكِ حُرْمَتِهِ، وَلَا يَحْرُمُ إخْرَاجُ الرِّيحِ فِيهِ لَكِنَّ الْأَوْلَى اجْتِنَابُهُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ» . اهـ. بِرْمَاوِيٌّ.
قَوْلُهُ: (وَلَا جُنُبًا) حَالٌ مِنْ الْوَاوِ فِي لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ؛ لِأَنَّ الْجُنُبَ يَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالْمُتَعَدِّدُ كَمَا قَرَّرَهُ شَيْخُنَا.
قَوْلُهُ: (لَا تَقْرَبُوا مَوَاضِعَ الصَّلَاةِ) هَذَا الْمُضَافُ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ إلَّا بِالنَّظَرِ لِقَوْلِهِ: وَلَا جُنُبًا. وَأَمَّا السَّكْرَانُ فَإِنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ الصَّلَاةِ نَفْسِهَا لَا مِنْ مَوَاضِعِهَا، وَالْأَوْلَى حَمْلُ الصَّلَاةِ فِي الْآيَةِ عَلَى حَقِيقَتِهَا وَمَجَازِهَا. وَهُوَ الْمَوَاضِعُ كَمَا أَفَادَهُ شَيْخُنَا.
قَوْلُهُ: (وَنَظِيرُهُ) أَيْ فِي تَقْدِيرِ الْمُضَافِ فِي قَوْلِهِ وَصَلَوَاتٌ أَيْ وَمَوَاضِعُ صَلَوَاتٍ.
قَوْلُهُ: (الْعُبُورُ) أَيْ الْمُرُورُ بِهِ بِأَنْ كَانَ لَهُ بَابَانِ، فَدَخَلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَخَرَجَ مِنْ الْآخَرَ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ لَهُ بَابٌ وَاحِدٌ فَيَمْتَنِعُ كَمَا قَالَهُ ابْنُ الْعِمَادِ، وَلَوْ عَبَّرَ بِنِيَّةِ الْإِقَامَةِ فِيهِ لَمْ يَحْرُمْ الْمُرُورُ، إذْ الْحُرْمَةُ إنَّمَا هِيَ لِقَصْدِ الْمَعْصِيَةِ لَا لِلْمُرُورِ، وَلَوْ دَخَلَ عَلَى عَزْمِ أَنَّهُ مَتَى وَصَلَ لِلْبَابِ الْآخَرَ رَجَعَ قَبْلَ مُجَاوَزَتِهِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ التَّرَدُّدَ، وَلَوْ لَمْ يَجِدْ مَاءً إلَّا فِيهِ جَازَ لَهُ الْمُكْثُ بِقَدْرِ حَاجَتِهِ وَيَتَيَمَّمُ لِذَلِكَ كَمَا قَالَهُ الْبِرْمَاوِيُّ. وَمِنْ الْعُبُورِ السَّابِحِ فِي نَهْرٍ فِيهِ أَوْ رَاكِبٍ دَابَّةً تَمُرُّ فِيهِ أَوْ عَلَى سَرِيرٍ يَحْمِلُهُ مَجَانِينُ أَوْ مَعَ عُقَلَاءَ، وَالْعُقَلَاءُ مُتَأَخِّرُونَ؛ لِأَنَّ السَّيْرَ حِينَئِذٍ مَنْسُوبٌ إلَيْهِمْ، أَمَّا لَوْ كَانُوا كُلُّهُمْ عُقَلَاءَ أَوْ الْبَعْضُ عُقَلَاءَ وَالْبَعْضُ مَجَانِينَ وَتَقَدَّمَ الْعُقَلَاءُ حَرُمَ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ؛ لِأَنَّ السَّيْرُ مَنْسُوبٌ إلَيْهِمْ وَحِينَئِذٍ فَهُوَ مَاكِثٌ. انْتَهَى اج.
قَالَ سَيِّدِي عَلِيٌّ الَأُجْهُورِيُّ الْمَالِكِيُّ فِي فَتَاوِيهِ الزَّهَرَاتِ الْوَرْدِيَّةِ: سُئِلَ عَنْ بِئْرِ زَمْزَمَ هَلْ هِيَ مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ؟ . وَهَلْ الْبَوْلُ فِيهَا كَالْبَوْلِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَمْ لَا؟ فَأَجَابَ: لَيْسَتْ زَمْزَمُ مِنْ الْمَسْجِدِ فَالْبَوْلُ فِيهَا أَوْ حَرِيمِهَا لَيْسَ بَوْلًا فِي الْمَسْجِدِ وَلِلْجُنُبِ الْمُكْثُ فِي ذَلِكَ. انْتَهَى. وَهُوَ كَلَامٌ وَجِيهٌ؛ لِأَنَّ بِئْرَ زَمْزَمَ مُتَقَدِّمَةٌ عَلَى إنْشَاءِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَلَيْسَتْ دَاخِلَةً فِي وَقْفِيَّتِهِ فَلَمْ يَكُنْ لَهَا حُكْمُهُ، وَكَذَلِكَ الْكَعْبَةُ لَيْسَ مِنْهُ لِبِنَاءِ الْمَلَائِكَةِ لَهَا قَبْلَ آدَمَ. فَإِنْ قُلْت: كَيْفَ يُتَصَوَّرُ مُكْثُ الْجُنُبِ فِيهَا مَعَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْوُصُولُ إلَيْهَا إلَّا بِدُخُولِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ؛ لِأَنَّهَا فِي وَسَطِهِ مُقَابِلَةً لِلْكَعْبَةِ مِنْ الْجِهَةِ الشَّرْقِيَّةِ؟ . قُلْت: يُصَوَّرُ ذَلِكَ بِمَنْ نَامَ فِي حَرِيمِ الْبِئْرِ فَحَصَلَتْ لَهُ جَنَابَةٌ، فَيَجُوزُ لَهُ الْمُكْثُ، أَوْ بِمَنْ عَبَرَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ لِيَغْتَسِلَ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ فَإِنَّهُ لَا حُرْمَةَ فِيهِ كَمَا ذَكَرَهُ الشَّارِحُ بِقَوْلِهِ وَخَرَجَ بِالْمُكْثِ وَالتَّرَدُّدِ الْعُبُورُ.
قَوْلُهُ: (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ غَرَضٌ كُرِهَ) ظَاهِرُهُ فِي كُلٍّ مِنْ الْحَائِضِ وَالْجُنُبِ، وَهُوَ مُسَلَّمٌ فِي الْأَوَّلِ إنْ أَمِنَتْ التَّلْوِيثَ. وَأَمَّا فِي الثَّانِي فَهُوَ خِلَافُ الْأَوْلَى عَلَى الْمُعْتَمَدِ لَا مَكْرُوهٌ. قَوْلُهُ: (فَإِنَّهُ يُمْكِنُ إلَخْ) لَكِنْ لَيْسَ لَهُ وَلَوْ غَيْرَ جُنُبٍ دُخُولُ الْمَسْجِدِ إلَّا لِحَاجَةٍ مَعَ إذْنِ مُسْلِمٍ بَالِغٍ أَوْ جُلُوسِ قَاضٍ فِيهِ لِلْحُكْمِ أَوْ مُفْتٍ لِلْإِفْتَاءِ ابْنُ حَجَرٍ، وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ لِلتَّمْكِينِ، أَمَّا هُوَ فَيَحْرُمُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute