للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَكْبَرَ. وَالْأَصْلُ فِيهِ قَبْلَ الْإِجْمَاعِ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [المائدة: ٦] إلَى قَوْله تَعَالَى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة: ٦] أَيْ تُرَابًا طَهُورًا، وَخَبَرُ مُسْلِمٍ: «جُعِلَتْ لَنَا الْأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدًا وَتُرْبَتُهَا طَهُورًا» .

ــ

[حاشية البجيرمي]

الرَّأْسِ فِي التَّيَمُّمِ فَقَالَ: لِأَنَّ نُكْتَةَ مَسْحِ الرَّأْسِ فِي الْوُضُوءِ الْإِشَارَةُ إلَى مَسْحِ الْكِبْرِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَخْلَاقِ السَّيِّئَةِ. وَفِي التَّيَمُّمِ لَمَّا مَسَحَ وَجْهَهُ بِالتُّرَابِ كَانَ فِيهِ أَشَدَّ مَذَلَّةً فَلَا يَزِيدُ مَسْحُ الرَّأْسِ لَهُ شَيْئًا.

قَوْلُهُ: (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى) جَمْعُ مَرِيضٍ. قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ: فَعْلَى لِوَصْفٍ كَقَتِيلٍ وَزَمِنٍ إلَخْ أَيْ بِأَنْ خِفْتُمْ مِنْ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ مَحْذُورًا بِقَرِينَةِ تَفْسِيرِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَرْضَى بِالْجَرْحَى.

قَوْلُهُ: (جُعِلَتْ لَنَا) أَيْ مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ وَمَنْ كَانَ قَبْلَنَا مِنْ الْأُمَمِ لَمْ تُبَحْ لَهُمْ الصَّلَاةُ إلَّا فِي الْبِيَعِ وَالْكَنَائِسِ، هَذَا فِي حَالِ إقَامَتِهِمْ، أَمَّا الْمُسَافِرُونَ فَيُصَلُّونَ فِي أَيِّ مَحَلٍّ كَانَ بِدَلِيلِ قِصَّةِ سَارَةَ لَمَّا أَخَذَهَا الْمَلِكُ حَيْثُ هَمَّ بِهَا وَحَجَبَ عَنْهَا تَوَضَّأَتْ وَصَلَّتْ ع ش. وَفِي رِوَايَةٍ: «جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ» قَالَ بَعْضُهُمْ: وَأَكَّدَ الْأَوَّلَ دُونَ الثَّانِي لِلْإِشَارَةِ إلَى رَدِّ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ الْأُمَمُ السَّابِقَةُ مِنْ قَصْرِ صِحَّةِ صَلَاتِهِمْ عَلَى مَكَان مُعَيَّنٍ كَالْبِيَعِ وَالْكَنَائِسِ، فَامْتَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا بِأَنْ صَحَّتْ صَلَاتُنَا فِي أَيْ مَحَلٍّ. قَالَ الْكَرْمَانِيُّ: قَدْ كَانَ عِيسَى يَسِيحُ فِي الْأَرْضِ وَيُصَلِّي حِينَ أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَكَأَنَّهُ قَالَ: جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا وَجُعِلَتْ لِغَيْرِي مَسْجِدًا، وَلَمْ تُجْعَلْ لَهُ طَهُورًا، أَوْ أَنَّ الْكَلَامَ فِي الْأُمَمِ لَا فِي أَنْبِيَائِهَا أَوْ إلَّا لِعُذْرٍ، كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ ح ل فِي حَاشِيَةِ الْمِعْرَاجِ لِلْغَيْطِيِّ.

قَوْلُهُ: (وَتُرْبَتُهَا طَهُورًا) أَيْ تُرَابُهَا مُطَهِّرًا. وَانْظُرْ هَلْ الْأُمَمُ السَّابِقَةُ لَمَّا كَانَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ يَفْقِدُ الْمَاءَ هَلْ يُصَلِّي كَفَاقِدِ الطَّهُورَيْنِ، وَيُعِيدُ أَوْ لَا يُعِيدُ أَوْ لَا يُصَلِّي أَصْلًا حَتَّى يَجِدَ الْمَاءَ؟ فَرَاجِعْهُ. اهـ. م د. قَالَ بَعْضُ شُرَّاحِ الرِّسَالَةِ الْقَيْرَوَانِيَّةِ: كَانَ مَنْ مَضَى مِنْ الْأُمَمِ إنَّمَا يُصَلُّونَ بِالْوُضُوءِ فِي مَوَاضِعَ اتَّخَذُوهَا وَسَمَّوْهَا بِيَعًا وَكَنَائِسَ وَصَوَامِعَ فَمَنْ غَابَ مِنْهُمْ عَنْ مَوَاضِعِ صَلَاتِهِ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ فِي غَيْرِهِ مِنْ بِقَاعِ الْأَرْضِ حَتَّى يَعُودَ إلَيْهِ ثُمَّ يَقْضِيَ كُلَّ مَا فَاتَهُ، وَكَذَا إذَا عَدِمَ الْمَاءَ لَمْ يُصَلِّ حَتَّى يَجِدَهُ ثُمَّ يَقْضِيَ مَا فَاتَهُ وَخُصَّتْ الْيَهُودُ بِرَفْعِ الْمَاءِ الْجَارِي لِلْحَدَثِ دُونَ غَيْرِهِ نَقَلَهُ الزَّرْقَانِيُّ. قَالَ ق ل فِي حَاشِيَةِ الْجَلَالِ: وَلَفْظُ التُّرْبَةِ دَلِيلٌ لِتَخْصِيصِ التَّيَمُّمِ بِالتُّرَابِ، وَبِهَا تُقَيَّدُ كُلُّ رِوَايَةٍ لَمْ يَذْكُرْ فِيهَا، وَمَفْهُومُهُ عَدَمُ صِحَّتِهِ بِغَيْرِ التُّرَابِ، وَمَا قِيلَ إنَّ لَفْظَ التُّرْبَةِ لَا مَفْهُومَ لَهُ، وَأَنَّهُ ذَكَرَ فَرْدًا مِنْ أَفْرَادِ الْعَامِّ بِحُكْمِهِ فَلَا يُخَصِّصُهُ، وَلِذَلِكَ جَوَّزَهُ الْإِمَامُ مَالِكٌ بِمَا اتَّصَلَ بِالْأَرْضِ كَالشَّجَرِ وَالزَّرْعِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبُهُ مُحَمَّدٌ بِمَا هُوَ مِنْ جِنْسِ الْأَرْضِ كَالزِّرْنِيخِ، وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو يُوسُفَ صَاحِبُ أَبِي حَنِيفَةَ بِمَا لَا غُبَارَ فِيهِ كَالْحَجَرِ الصُّلْبِ. أُجِيبَ عَنْهُ: بِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ بَابِ الْعَامِّ بَلْ مِنْ بَابِ الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ كَمَا فِي تَقْيِيدِ الرَّقَبَةِ وَإِطْلَاقِهَا فِي الْكَفَّارَةِ، وَبِأَنَّ الْآيَةَ الشَّرِيفَةَ دَالَّةٌ عَلَى اعْتِبَارِ الْمَفْهُومِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: ٦] إذْ لَا يُفْهَمُ مِنْ: مِنْ إلَّا التَّبْعِيضُ نَحْوُ: مَسَحْت الرَّأْسَ مِنْ الدُّهْنِ وَهُوَ الْغُبَارُ، وَالْغَالِبُ أَنْ لَا غُبَارَ لِغَيْرِ التُّرَابِ فَتَعَيَّنَ وَجَعْلُ مِنْ لِلِابْتِدَاءِ خِلَافُ الْحَقِّ، وَالْحَقُّ أَحَقُّ مِنْ الْمِرَاءِ. {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} [الأحزاب: ٤] . وَقَوْلُهُ بِحُكْمِ الْعَامِّ وَهُوَ قَوْلُهُ: «جُعِلَتْ لَنَا الْأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدًا وَطَهُورًا» كَمَا فِي رِوَايَةٍ. وَقَالَ الْحَكِيمُ وَإِنَّمَا جُعِلَ تُرَابُ الْأَرْضِ طَهُورًا لِهَذِهِ الْأُمَّةِ؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ لَمَّا أَحَسَّتْ بِمَوْلِدِ نَبِيِّنَا انْبَسَطَتْ وَتَمَدَّدَتْ وَازْدَهَتْ وَافْتَخَرَتْ عَلَى السَّمَاءِ وَسَائِرِ الْخَلْقِ بِأَنَّهُ مِنِّي خُلِقَ، وَعَلَى ظَهْرِي تَأْتِيه كَرَامَةُ اللَّهِ، وَعَلَى بِقَاعِي يَسْجُدُ بِجَبْهَتِهِ لِلَّهِ، وَفِي بَطْنِي مَدْفِنُهُ فَلَمَّا جَرَّتْ رِدَاءَ فَخْرِهَا بِذَلِكَ جُعِلَ تُرَابُهَا طَهُورًا لِأُمَّتِهِ، وَجُعِلَتْ تَحْتَ أَقْدَامِهِمْ مَسْجِدًا، فَالتَّيَمُّمُ هَدِيَّةٌ مِنْ اللَّهِ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ خَاصَّةً لِتَدُومَ لَهُمْ الطَّهَارَةُ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ وَالْأَزْمَانِ. وَاسْتَدَلَّ الْقُرْطُبِيُّ بِالْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ التَّيَمُّمَ يَرْفَعُ الْحَدَثَ لِتَسْوِيَتِهِ بَيْنَ الْمَاءِ وَالتُّرَابِ فِي قَوْلِهِ: طَهُورًا وَهُوَ مِنْ أَبْنِيَةِ الْمُبَالَغَةِ، وَهُوَ قَوْلٌ لِمَالِكٍ. وَمَشْهُورُ مَذْهَبِهِ كَمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ مُبِيحٌ لَا رَافِعٌ، كَذَا فِي شَرْحِ الْخَصَائِصِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>